نشرت صحيفة الرياض في عددها 16856 يوم الإثنين الماضي مايلي:
«أوضحت مصادر خاصة داخل أروقة وزارة العدل أن صكاً بمحافظة جدة تبلغ مساحته 33 مليون متر مربع، بمتوسط متفاوت لسعر المتر المربع من موقع لآخر، لكن تقيِّم عموم التقديرات العقارية وصول مجموع سعره إلى 90 مليار ريال، تم عرضه على دائرة تدقيق الأحكام القضائية بمحكمة استئناف مكة المكرمة، وأصدرت فيه قراراً بنقض الحكم الصادر بتمليكه، وهو يقع على مساحة استراتيجية شاسعة في جدة يدعي تملكه رجل أعمال شهير، وقد تلاعب بمساحته قاض مفصول.
ويدعي رجل الأعمال أنه يملك أرضاً شاسعة في جدة منها مواقع تجارية مهمة، وأحياء سكنية كاملة، وموقع حراج السيارات، ومستودعات التجارة «المدينة الصناعية» وقناة تصريف مياه السيول، مع مساحات بيضاء أخرى، وفي ذلك مطالبات للدولة بدفع تعويضات ضخمة له عن الأراضي المشغولة بأملاك الدولة، التي تُقدر قيمتها بعشرات المليارات في حال تمت المصادقة على ادعاء الملكية، حيث يلزم الدولة لو تم له ذلك تنفيذ الصك الشرعي الصادر بإقرار تملكه، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا من خلال تعويضه عن الأراضي المشغولة ودفع أجرتها للسنوات الماضية. وتسليمه المساحات البيضاء الأخرى وهي أيضاً شاسعة المساحة».
ليست هذه الحادثة الوحيدة،حيث تم الحديث عن عشرات القضايا المشابهة لها في الأعوام السابقة، بعد أن أصدر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله أمراً لإمارات المناطق يقضي أن تسترجع كل ماتم الاستيلاء عليه من الأراضي العامة، حيث تحركت بعض إمارات المناطق لتنفيذ هذا الأمر بشكلٍ جدي – مثل إمارة منطقة مكة المكرمة- بينما تراخت بعض الإمارات عن التنفيذ الحازم لأمر الملك!! وليس هناك شكٌ أنّ هذا الخبر المستفز وأمثاله في حاجةٍ إلى الشفافية من قبل وزارة العدل ووزارة الشؤون البلدية والقروية، لكي يكون المواطن على علمٍ بما يستجد في هذه القضية وأمثالها، فهذه الأرض ملكٌ لكل مواطن، ولا يحق لأحدٍ أن يستولي عليها كائناً من كان، وعلى الدولة الحفاظ على هذا الحق وصيانته.
وبعد تصدير المقال بهذا الخبر، فلا بد من تناول مجموعة من النقاط المتعلقة به، التي تتقاطع مع شبكات الفساد المنتشرة، وتؤثر على جهود الدولة في توفير السكن للمواطن، فأول ما يجب تقريره هنا: أنّ السكن الملائم حقٌ أصيل لكل مواطن، وليس منّةً من أحد، وعلى أجهزة الدولة المعنية أن تقوم بواجبها، ليحصل كل مواطنٍ على هذا الحق الأصيل. وأول هذه الواجبات التي يجب على الدولة القيام بها، هو صيانة الأراضي العامة من اللصوص وأصحاب الشبوك من المتنفذين ورجال الأعمال وأثرياء العقار، فليس من المعقول أن يستولي أحدهم على 33000000 م2 كما ورد في الخبر، هذه المساحة التي تكفي لإنشاء ما يقرب من 80000 وحدة سكنية بمساحة 400م2 للوحدة! وهو ما يساوي مساحة مدينة متوسطة الحجم!! ويتم هذا الاستيلاء عن طريق قاضٍ مفصولٍ فاسد، ثم لا يحاسب هذا اللص ولا يحاسب القاضي!! بينما في قضايا سرقاتٍ صغيرة يتم إصدار أحكام بعشرات السنين على شبابٍ مراهقين جهلة!! ولذلك نناشد وزارة العدل أن تتحمل مسؤوليتها أمام الله، ثم أمام ولي الأمر والمواطن، وأن تتعامل بحزمٍ مع هؤلاء اللصوص، الذين جعلوا السكن حلماً بعيد المنال في أرض المساحات الشاسعة والبترول!!
أمّا ثاني الواجبات، فهو ما يقع على عاتق إمارات المناطق في تنفيذ الأمر الملكي القاضي باسترجاع الأراضي المنهوبة من أملاك الدولة، فهذه الأراضي المنهوبة ليست ملكاً للمسؤولين في إمارات المناطق، لكي يتراخوا في تنفيذ أمر استرجاعها، بل هي ملك للوطن والمواطن، وربما كان أمراء المناطق وكبار موظفي الإمارات في غنى عن هذه الأراضي ولكن المواطن في حاجةٍ إليها ويجب أن تعود إلى الدولة، ليحصل على نصيبه منها، وهنا لا بد أن تكون الشفافية حاضرةً في عمل إمارات المناطق لنعرف مدى جديتها في تنفيذ الأمر، ولنعرف العوائق التي تمنعها من ذلك – في حال وجودها- فهذه الأرض ملكٌ للوطن والمواطن وليست امتيازاً للمتنفذين والأثرياء وعلية القوم.
أمّا وزارة الشؤون البلدية والقروية التي يتهمها كثيرٍ من الناس بالمسؤولية عن فوضى المنح المليونية، وظاهرة الأراضي البيضاء الناهشة في تراب الوطن، حينما كانت هي الآمر الناهي في شأن الأراضي العامة فيما سبق، فيجب عليها مراجعة مسوغات المنح التي منحت بموجبها ونزع كل ما لم يكن له مسوغ مشروع، كما يجب عليها تكثيف رقابتها على الأراضي التي تقع تحت ملكيتها وحمايتها من اللصوص، ومراقبة كبار موظفيها وأمنائها، والحرص على براءة ذمتهم المالية وعدم تضخم أرصدتهم بهذا الشكل الخيالي الذي أصبح عليه بعضهم!!
الواجب الأخير هو ما يتصل بوزارة الإسكان، هذه الوزارة التي خصص خادم الحرمين الشريفين لها مبلغاً قد يكون الأعلى في التاريخ لقضية السكن، ومع ذلك لا تزال تتعامل مع هذا الملف الحساس والعاجل بطرقٍ بدائية بطيئةٍ لا تتسق مع واجبها الضخم وميزانيتها الأضخم، حيث تتعلل الوزارة بشح الأراضي وعدم توفرها، بينما لم نسمع أنّها طالبت بتملك أيٍ من هذه الأراضي المنهوبة التي استرجعتها الدولة، ولذلك يجب عليها أن تطالب بكل الأراضي التي تحتاجها التي أصبحت في عهدة إمارات المناطق بعد استرجاعها من لصوص العقار، فواجبها أن توفر السكن للمواطن، هذا السكن الذي يحتاج إلى مساحاتٍ هائلةٍ للبناء عليها، وهذه المساحات قد تكون متوفرة وتنتظر وزارة الإسكان للمطالبة بها.
في نهاية المقال، لم يعد سراً ولا من المسكوت عنه، أنّ سبب أزمة الأراضي التي نتجت عنها أزمة السكن، هو وجود شبكاتٍ للفساد المنظم قامت بنهب الأرض وتسويرها، وأنّ هذه الشبكات تضم موظفين في كتابات العدل وبعض القضاة الفاسدين وبعض موظفي البلديات، بالإضافة إلى بعض المتنفذين ورجال الأعمال وأثرياء العقار، هذه الشبكات التي نشطت في العقدين الماضيين، ونجحت في تحقيق الثراء غير المشروع والتضييق على المواطن، ووضعت أجهزة الدولة في موقفٍ حرج أمام الرأي العام وأمام المواطن، هي نفسها التي تعادي زكاة الأراضي البيضاء، وهي نفسها التي حولت التراب إلى سلعةٍ للمضاربة، وأحالت أحلام المواطنين بالسكن هباء منثوراً، ولذلك فقد أصبح من الضروريات التي لا تقبل التأجيل أن تتعامل الدولة مع هذه الشبكات بمنتهى الحزم والعدل، وأن تعيد الحقوق إلى أصحابها، فكما ذكرنا سابقاً، السكن الملائم حقٌ أصيلٌ لكل مواطن، وليس هبةً أو منّةً من أحد.
20 أغسطس 2014