الجواب عن أنسنة المسكن يكمن في مقدرة الفضاءات المادية على إتاحة الفرصة للتواصل الاجتماعي والارتباط بالبيئة الخارجية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى مدى استعادة الثقافة المجتمعية لتقبل هذا الانفتاح وهذا التواصل.
كثير من الناس يلومون المعماريين على عدم مساهمتهم في أنسنة المسكن، بينما هوية المسكن تنبع أصلاً من الذي يسكن المسكن وليس ممن يصممه أو يبنيه..
يبدو رمضان، هذا العام، مختلفًا عن أي رمضان عشناه من قبل.. إنه حالة خاصة في زمن الحجر المنزلي نتيجة لجائحة “كوفيد-19″، الذي غير من أنماط الحياة في هذا الشهر الكريم. صلاة التراويح في البيت، والاجتماعات الأسرية المحدودة وسفرة الإفطار المتواضعة، التي تخلو من الوجوه المتعددة وليس من البهجة، كلها دروس جديدة لنمط حياة جديدة نعيشه فعلاً ولم يخطر ببالنا من قبل. مفهوم المسكن في رمضان بدأ يأخذ بعدًا آخر يدعو إلى “أنسنة المسكن” ومراجعة أحيازه وفضاءاته والبحث فيها عما يمكن أن يعزز الجانب الإنساني في زمن “التباعد الاجتماعي”، فإذا كان رمضان يحث على التقارب والتواصل وإعادة الحسابات ويطلق عليه مصطفى صادق الرافعي “مدرسة الثلاثين يومًا”، كذلك هو، في زمن الحجر المنزلي، يملأ العين المتأملة والناقدة بكثير من الأفكار التي حتمًا ستعيد النظر في مفهوم المسكن أولاً وفي نمط الحياة بشكل عام ثانيًا.
استوقفتني هذه الآية الكريمة طويلاً “وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (يونس: 87) وكأني أقرؤها للمرة الأولى، فهي تحمل دلالات عميقة حول معنى “المسكن”، وكأن المسكن منظومة حياة متكاملة وليس فقط للمبيت. لقد استرعى انتباهي منذ ثلاثة عقود تقريبًا الدقة القرآنية الفائقة في التفريق بين “البيت” و”المسكن”، فالله هو الذي جعل لنا من بيوتنا سكنًا، وهو الذي قال لنا إنه ليس علينا جناح أن ندخل بيوتًا غير مسكونة. ويبدو أن الصفة الإنسانية التي تتنامى تدريجيًا في البيت وتحوله إلى مسكن تتطلب أن يكون الفضاء المعماري للبيت ملائمًا لفعل “الأسكنة”، الذي هو إحدى السمات الإنسانية الكونية. لقد لاحظت أن كل ما يجمع بين الإنسان والبيت يسمى مسكنًا، بينما يطلق البيت على الجوانب المادية من البناء، فالأقوام السابقة نحتوا بيوتًا في الجبال آمنين وفارهين.
هذه العلاقة الجدلية التي تشير إلى أهمية أنسنة المسكن أو تحويل الفضاء المادي للبيت إلى فضاء إنساني لممارسة الحياة تتصاعد بشكل حاد هذه الأيام والأسر تقضي رمضان في بيوتها، وأفرادها يناجون ربهم في محاريبهم المنزلية. كل هذا الزخم القرآني للتأمل في القيمة الإنسانية والاجتماعية لم يقدنا – مع الأسف – لنتعامل مع مساكننا كما ينبغي من الناحية التصميمية، بل إن أمر الله لنا بأن نجعل من بيوتنا قبلة، فخير صلاة الرجل والمرأة في مسكنهما، لم تجعلنا نفكر كيف نحيل المسكن إلى مجال للحياة والتواصل المجتمعي. ورغم أن بيوتنا تعرف ثقافيًا من خلال عبارة “البيت بيتكم” إشارة للكرم والانفتاح المجتمعي، إلا أن هذه العبارة لا تعبر عن واقع، بل إن مساكننا قلاع مغلقة مستقلة عما حولها.
ولكن ماذا نقصد بأنسنة المسكن، طالما أنه يوجد أناس يعيشون فيه. أذكر قبل سنوات طويلة حاولت أن أفرق بين مفهوم “الأسكنة”؛ أي إسكان الناس في بيوت، و”التأسكن”؛ أي تحول البيت تدريجيًا إلى مسكن، ونشرت هذا في مقال في هذه الصحيفة الغراء مطلع الألفية الثالثة، ثم أعيد نشره في الكتاب الذي شمل عددًا من المقالات الذي حمل عنوان “من المربع إلى العذيبات: رؤي وأفكار في العمارة السعودية المعاصرة” نشرته كذلك جريدة الرياض سبتمبر 2001م. في تلك المقالة فرقت بين أمرين: الأول هو تصميم المسكن، والآخر هو البيئة الثقافية للسكان، ووجدت أن المسكن السعودي من الناحية التصميمة يواجه انغلاقًا مجحفًا لم يكن موجودًا في السابق؛ وذلك نتيجة للخلل الواضح الذي حدث في البنية الثقافية للمجتمع بعد التحول للمساكن الحديثة وزوال ملامح المجتمع التقليدي.
ويبدو أن الجواب عن أنسنة المسكن يكمن في مقدرة الفضاءات المادية على إتاحة الفرصة للتواصل الاجتماعي والارتباط بالبيئة الخارجية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى مدى استعادة الثقافة المجتمعية لتقبل هذا الانفتاح وهذا التواصل. كثير من الناس يلومون المعماريين على عدم مساهمتهم في أنسنة المسكن، بينما هوية المسكن تنبع أصلاً من الذي يسكن المسكن وليس ممن يصممه أو يبنيه. وهذه خاصية تتصف بها العمارة كلها؛ أي أن الهوية المعمارية هوية من يطلب العمارة ومن يستخدما لا من يصممها ويبنيها. في اعتقادي أن “الحجر المنزلي” والمكوث الطويل في المسكن سيغير من الثقافة المجتمعية، ولن أقول إنه سيساعد على تقديم تنازلات تجاه الخصوصية، لكنه سيسهم في مراجعة الخصوصية وتهذيبها.