من الواضح أن هناك علاقة عميقة بين التركيبة السكانية وبين الهوية العمرانية فليس من المعقول أن نتصور عمران مدينة يكون فيها السكان مهمشين حتى لو كانوا غير نافذين مثلما حدث للعرب بعد سقوط الأندلس، حيث مارس العرب هويتهم العمرانية لأكثر من قرنين حتى تم طردهم نهائيا من أسبانيا في القرن السابع عشر. لقد كان للتركيبة السكنية العربية تأثير في المنتج العمراني الأسباني منذ نهاية القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن السابع عشر وكانت العمارة التي تنتج تسمى «مدجنة» ونتج عنها روائع معمارية عميقة مثل القصور الملكية في أشبيلية.
ما أود الحديث عنه هنا هو التركيبة السكانية الهشة التي تعاني منها دول الخليج العربي وتأثير هذه التركيبة على الهوية العمرانية في هذه المدن، فنحن نلاحظ «إنفلات الهوية» في كل من دبي والدوحة والمنامة بينما هناك مدن أخرى تعاني وفي طريقها لإنفلات الهوية مثل الرياض وأبوظبي والكويت وتبقى مسقط أكثر استقرارا.
من يراقب المدينة الخليجية سوف يجد إزاحات بطيئة ومستمرة نحو هوية عمرانية «غريبة» لا تمت للمنطقة ولا إلى سكانها الأصليين بأي صلة وهذا هو الخطر الكبير القادم.
ليست هذه المرة الأولى التي نثير فيها المخاطر المحدقة التي تعيشها دول الخليج نتيجة التركيبة السكانية الغريبة، ولاسيما مع تصاعد تدخلات الأمم المتحدة ومناداتها بإعطاء العمالة الوافدة (التي أصبح أسمها في كثير من الدول «عمالة مهاجرة») حقوق سياسية، والتي تعني، في حالة دول الخليج العربية، فقدان السيطرة على إدارة البلد كون هذه العمالة تفوق في عددها سكان كثير من الدول وتصل في بعضها إلى نسبة 80% من مجمل عدد السكان. ونحن متيقنين أنه قبل الحقوق السياسية سيكون هناك تأثير ثقافي ومعماري عميق سيحول هذه المنطقة إلى شئ آخر خارج هويتها المحلية الأصلية.
يرى بعض المراقبين في المنطقة أن هذه العمالة مجرد جاليات وأن الأمر تحت السيطرة، ولعل هؤلاء نسوا التحولات والتغيرات التي تحدث في العالم والمفاجآت المستقبلية التي قد لا نستطيع التعامل معها في حالة لو تغيرت القوانين الدولية وشملنا مفهوم «العمالة المهاجرة» وما يتبعه من حقوق لا نستطيع درء مخاطرها على وجودنا في هذه المنطقة.
ومن الواضح أنه لايوجد حل لهذه المشكلة، فحتى على المستوى الشخصي وجدت أنه من الصعوبة بمكان الاستغناء عن العمالة الوافدة في بلادنا لأننا خلال الأربعة عقود الأخيرة انشأنا ثقافة «إتكالية» يصعب تغييرها أو تحتاج إلى وقت طويل من أجل تغييرها، وهي ثقافة تعتمد كلياً على وجود من يقوم على خدمتنا حتى في أدق تفاصيل حياتنا. إنها ثقافة تصنع الكسل وتشجعه وتعد بمزيد من المخاطر ومزيد من البطالة بين مواطنينا. حتى على مستوى الإنتاج المعماري نجد أن دول الخليج العربي هي أكثر الدول التي تستعين بالخبرات الخارجية لعمل التصاميم المعمارية لذلك لم تستطع أن تبني خبرة محلية يعتد بها ورغم أنها من أكثر دول العالم التي تبني إلا أنها لم تنتج مبدعين في مجال العمارة ولم تظهر أسماء لامعة في هذا المجال من أبناء المنطقة. هناك إشكالية عميقة لا يمكن السكوت عنها ويجب أن تكون ضمن القضايا الأساسية التي تثار في المنطقة من أجل التصحيح.
والحقيقة هي أنني ارجعت هذه الظاهرة إلى مجموعة من الأسباب تبدأ من وجود خلل في التشريع وتنامي ظاهرة «السلطة الناقصة»، فالتشريعات الموجودة في دول المنطقة التي تخص العمالة الوافدة لاتطبق ويوجد خلل كبير وواضح في مسألة ممارسة السلطة التي لا تستطيع تطبيق هذه التشريعات، مع وجود خلل في التشريعات نفسها التي تجعل من إمكانية السيطرة على تدفق العمالة أمراً غير ممكن.
الخلل الخطير يكمن في «التبعية للتنمية»، وأقصد هنا أننا بدلاً من أن نقود التنمية ونوجهها إلى ما ينفعنا ويفيد مواطنينا، صرنا نتبع التنمية فهي التي توجهنا، وخير مثال على ذلك التوسع في العمران غير المسبوق الذي تمر به المدينة الخليجية. تخيلوا معي لو أن العمالة الوافدة تركت المنطقة فمن سيسكن تلك المباني، صرنا في حلقة مفرغة، فنحن صنعنا مدن لتستوعب تلك العمالة، ولا نستطيع العودة للوراء.
هذا في حد ذاته أمر مقلق ومخيف، فالحل باهظ التكاليف، ويشجع دائما على التراجع عن أخذ مواقف قوية أو حتى إصدار تشريعات يمكن تطبيقها وتحد من تدفق العمالة لأنها سوف تتعارض مع مصالح البعض المؤثر وسوف تؤدي إلى وجود مدن أشباح ومهجورة في المنطقة.
المشكلة التي تنتجها هذه التبعية للتنمية نابعة في الأصل من «الأنانية» والتقوقع على المصالح الشخصية التي هي أساس البلاء في المنطقة، فالعذر أن «المشاريع الحكومية» الكبرى تتطلب عمالة لا تستطيع السوق المحلية توفرها هو عبارة عن «ستار» لتمرير العمالة غير النظامية وحتى النظامية، فهذه المشاريع مؤقته ويجب الإستغناء عن العمالة بعد الإنتهاء منها وهو الأمر الذي لم يتحقق في يوم.
ويبدو أن هناك خلل كبير ناتج عن الرغبة في التمدد الاقتصادي غير المبرر، فهو تمدد ناتج عن استنزاف الموارد الناضبة وعدم توظيفها بشكل يخدم الاجيال القادمة. الهدف من هذا النمو الاقتصادي «تراكم الثروة» لدى البعض دون استثمار فعلي لهذه الثروة.
المشكلة التي أراها هي أن هذا النمو الاقتصادي «الوهمي» يؤدي إلى تفاقم مشكلة الخلل السكاني، ويؤدي إلى إضعاف البنية الاقتصادية المنتجة، التي يجب ان ترتكز على المواطنين، لأنه «إقتصاد جشع» ويبحث عن المصالح الفردية وبالتالي فإن عدد كبير من المواطنين يتم عزلهم خارج هذا الاقتصاد وينتهي بهم الأمر دون عمل.
المشكلة الكبيرة التي يصنعها هذا الإقتصاد «الطفيلي» هو ثقافة «طفيلية» تنشأ على مستوى القاعدة المجتمعية همها الوحيد هو تقليد من هم على قمة هذا الإقتصاد وبالتالي تتراكم ثقافة الإتكال واستنزاف الموارد وعدم الرغبة في الإنخراط في الأعمال الجادة والمنتجة فطالما أن هناك موارد سهلة فلماذا نتعب أنفسنا، وهذا في حد ذاته يجعل مشكلة التركيبة السكانية بين المطرقة والسندان فمن جهة يوجد عزوف لدى الطبقة المتحكمة في الاقتصاد من الاعتماد على المواطنين ومن جهة أخرى لا يوجد الحافز لدى المواطنين لتطوير وتنمية المهارات الشخصية التي تجعلهم منافسين في سوق تسيطر عليه عمالة رخيصة الثمن.
لعلنا نصل هنا إلى المشكلة العملية التي تولد مثل هذه الثقافة وتفاقم هذه الظاهرة، رغم أن الحل بين أيدينا، وأقصد هنا «الخلل التعليمي والتدريبي»، فنحن نسمع كل يوم بأن مخرجات التعليم لا توائم سوق العمل، وأنا أرى أن هذه الظاهرة هي جزء صغير من المشكلة، لأن المسألة تكمن في الملايين من العاطلين عن العمل في دول المنطقة والملايين الأكثر منهم من العمالة الوافدة، وفي اعتقادي أننا بحاجة إلى برنامج وطني في كل دول الخليج العربي للتدريب على الاعمال البسيطة التي يحتاج لها السوق وهي أعمال مساعدة ومهنية ويرتكز عليها الاقتصاد وعدم انخراط المواطنين فيها هو السبب الرئيس في زيادة العمالة الوافدة. أما بالنسبة لإصلاح التعليم فهذا أمر مفروغ منه ويحتاج إلى قرار سياسي شجاع يبتعد عن المجاملة ويضع أطر ومعايير محاسبة واضحة ويصنع مؤسسات تعليمية حرة ومستقلة ومتنوعة.
بشكل عام لا يمكن أن نتصور الهوية المعمارية مجرد أشكال بل هي ممارسات يومية للحياة في البيئة العمرانية وهذا يجعل من المشاكل الاجتماعية العميقة مثل مشكلة التركيبة السكانية مؤثرة على المدى الطويل فهي تخنق أي محاولة حقيقية للتغير لأن الحراك الاجتماعي في هذه الحالة لا يدعم التحول نحو الهوية المحلية.