حين نتحدث عن الثروات الطبيعية يخطر ببالنا النفط والمعادن والغـابات والمناجم.. ولكن هناك ثروة خفية وغير محسوسة تتمثل في تشجيع الخصخصة، وخلق اقتصاد المعرفة، وسن قوانين استثمارية جريئة (وهذا ما أعنيه بالثروة القانونية التي سأدعوها بهذا الاسم حتى نهاية المقال)..
حـين تملك ثروة طبيعية بمعزل عن الثروة القانونية ستهدرها بالتدريج وتكتشف متأخرا أنك لم تستثمرها بشكل سليم.. أما حين تملك ثروة قانونية تستطيع (حتى دون ثروة طبيعية) النهوض من الصفر والوصول لمصاف العالمية.. هذا ما حصل في اليابان وتايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية التي لا تملك ثروات طبيعية فـبلورت ثروة قانونية ومعرفية صعدت بها لمصاف الدول المتقدمة.. وفي المقابل هناك دول مثل إيران والعراق ونيجيريا وليبيا وفنزويلا امتلكت ثروات نفطية هائلة ومع هذا تعاني فقرا وفسادا ونزاعات أيدلوجية احتفظ بها في قائمة الدول النامية أو المتخلفة..
لا تعتقدوا أبدا أن حـل مشكلاتنا (من إسكان وتعليم وصحة) يعتمد فقط على وفرة المال وضخامة الميزانيات.. فـالقسم الأكبر من ميزانية الدولة لم يرتق بمستوى تعليمنا (حتى لمستوى التخلص من المستأجر).. وتخصيص 250 مليار ريـال لم يحل لدينا أزمة الأراضي والإسكان.. أما وزارة الصحة فتضخمت ميزانيتها حتى أصبحت كافية لمنح كل مواطن تأمينا طبيا لدى القطاع الخاص..
ما نحتاجه (بجانب المال) هـو روح الابتكار، وتشجيع الاستثمار، وإصدار قرارات نوعية جريئة..
تخيل مثلا لو صدر قرار يسمح للبنوك وشركات المقاولات ببناء مدارس نموذجية تستأجرها الدولة بعقد ينتهي بالتملك (بدل استئجار العمائر السكنية).. مجرد طريقة مختلفة في التفكير من شأنها حل أزمة المدارس المستأجرة خلال وقت قصير..
تخيل لو صدر قرار يسمح لشركات الليموزين ورجال الأعمال بتسيير باصات نقل عام بحيث نمتلك خلال أشهر شبكة نقل معقولة..
تخيل لو سمحنا بتعـدد الأدوار في الأحياء السكنية (لأربع طوابق مثلا) بحيث نقلل من أزمة السكن بنسبة النصف، ويستفيد المواطن من أرضه بمعدل الضعف..
تخيل لو سمحنا لأصحاب المساكن الحالية ببيع أدوارهم العلوية (الثالث والرابع والخامس) لغير القادرين على شراء أراضيهم الخاصة؛ ألا نحد بذلك من تمدد المدن ونهبط بأسعار الأراضي بمعدلات مماثلة؟!
وماذا عن وزارة الصحة؟.. هل سيقتصر دورها على توفير الأسرة والعقاقير ومكافحة الكورونا، أم تشجيع القطاع الخاص (ومشاركته) في بناء المزيد من المستشفيات، ناهيك عن إدخال المواطنين تحت مظلة التأمين الطبي؟
.. قرارات كهذه لا تتطلب ميزانيات ضخمة بـل رؤى جديدة وقرارات جريئة.. فالسماح بتعدد الأدوار سيسبق في نتائجه كافة الميزانيات المخصصة للإسكان، والشيء نفسه ينطبق على الاستثمار في المدارس، والمستشفيات، وخصخصة قطاع النقـل، وتوفير تأمين صحي لكل مواطن..
لا نحتاج لثروات طبيعية كي نصدر قرارات بتخصيص الوزارات الخدمية.. بل على العكس تماما سيساهم تخصيصها في تحقيقها أرباحاً تصب في ميزانية الدول (بعد أن كانت الدولة هي التي تصرف عليها)..
لدينا نموذجان ناجحان في قطاعي الاتصالات والبتروكيميائيات يمكن أخذهما كمقياس.. فـبعد أن كنا نملك وزارة كسولة باسـم “البرق والبريد والهاتف” تصرف عليها الدولة، تحولت إلى شركة اتصالات ناجحة تقدم للدولة أرباحا هائلة (بحكم ملكيتها لــ70% من أسهمها).. أما النموذج الثاني فهو شركة سابك التي دخـلت قائمة الفايننشيال تايمز لأكبر 500 شركة في العالم وتملك الدولة نصيبا من أرباحها يقدر بــ70,8%
.. بهذه الطريقة فقط يمكننا ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد:
خلق تنمية مستدامة (لا ترتهن بالنفط أو أي ثروة طبيعية أخرى)..
ودخـول الدولة كمستثمر ومشارك في الأرباح (بـدل توليها مسؤولية الصرف)..
وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار داخل الوطن (فرأس المال ليس جبانا كما يشاع بل ذكي يبحث عن المناطق الأكثر ربحية)!
باختصار شديد:
..الجرأة، وروح الابتكار، وقوانين الاستثمار هي “الثـروة” التي تكاد تنعدم في بيئتنا المحلية وتجعلنا نتأمل خيراً في رؤية 2030.