استكمالاً لما بدأ الحديث عنه في المقال الأخير التمويل العقاري .. الفرص والمخاطر، الذي تفرع إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة، لما قد ينتهي إليه تسارع وتيرة نمو التمويل العقاري في يد الأفراد، وفقا للأوضاع الراهنة، ومستقبلا بحلول نهاية 2022، تتمايز تلك السيناريوهات المحتملة فيما بينها من حيث حجم التمويل العقاري المحتمل في نهاية الفترة، حسبما سيطرأ من تغيرات على مستويات الأسعار السوقية لمختلف الأصول العقارية “استقرار، ارتفاع، وانخفاض”، مع الثبات الافتراضي لأعداد المقترضين من الأفراد، المقدر وصوله بنهاية الفترة إلى أعلى من 1.3 مليون مقترض.
الأول: أن يتنامى حجم التمويل العقاري للأفراد بالتزامن مع “استقرار” أسعار الأراضي والعقارات، الذي تم استبعاد حدوثه في حال عدم تغير الأوضاع الراهنة في السوق العقارية، ليصل إلى نحو 593 مليار ريال “نمو 284 في المائة مقارنة بنهاية 2018″، وبإضافة بقية أنواع القروض المصرفية سيصل الإجمالي إلى نحو 982 مليار ريال بحلول نهاية 2022 “39.2 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي، ونحو 79.0 في المائة من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي الخاص”.
الثاني: أن يتنامى حجم التمويل العقاري للأفراد مع افتراض “ارتفاع” أسعار الأراضي والعقارات بما لا يتجاوز 30 في المائة مقارنة بأسعار العام الجاري، ليصل إلى نحو 972 مليار ريال “نمو 528 في المائة مقارنة بنهاية 2018″، وبإضافة بقية أنواع القروض المصرفية سيصل الإجمالي إلى نحو 1.4 تريليون ريال بنهاية الفترة “55.0 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي، ونحو 111.0 في المائة من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي الخاص”.
الثالث: أن يتنامى حجم التمويل العقاري للأفراد مع افتراض “انخفاض” أسعار الأراضي والعقارات بما لا يتجاوز 30 في المائة مقارنة بأسعار العام الجاري، كنتيجة متوقعة في حال تم اتخاذ السياسات والتدابير اللازمة والكافية، التي تقضي على تشوهات السوق العقارية، لعل من أهمها استكمال تنفيذ بقية مراحل نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، ليصل إلى نحو 367 مليار ريال “نمو 137 في المائة مقارنة بنهاية 2018″، وبإضافة بقية أنواع القروض المصرفية سيصل الإجمالي إلى نحو 733 مليار ريال بنهاية الفترة “29.0 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي، ونحو 58 في المائة من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي الخاص”.
تبدو الفروقات واضحة جدا وجلية بين كل سيناريو وآخر، وأين تكمن الفرص بدرجة أكبر على حساب إطفاء المخاطر التي يقابلها “السيناريو الثالث”، أو أين تكمن المخاطر العالية جدا التي تظهر أمامها أي فرص ممكنة “السيناريو الأول والثاني”، وقد بدأ الحديث فيما يختص بتلك المخاطر المحتملة، بالتركيز على الآثار المحتملة لزيادة استقطاع أقساط السداد الشهرية عن أعلى من 50 في المائة من الأجور الشهرية للأفراد، لفترات سنوية تصل إلى 20 عاما، أنها ستخلف آثارا سلبية في الإنفاق الاستهلاكي الخاص، سينتقل أثره العكسي إلى عموم منشآت القطاع الخاص، متسببة في انخفاض إيراداتها بنسب تفوق قدرتها على التماسك والصمود، ما سيضطرها بالتزامن مع ارتفاع تكلفة الإيجارات نتيجة ارتفاع أسعار العقار، إما إلى الاستغناء عن شرائح واسعة من عمالتها الوطنية لخفض التكاليف، أو أنها قد تضطر في نهاية الأمر إلى إيقاف نشاطها تماما.
كلا الأمرين سيؤدي بكل تأكيد إلى ارتفاع أعداد العاطلين ومعدل البطالة، وإلى انخفاض النمو الاقتصادي، وتزداد الأوضاع تعقيدا إذا ما كان جزء من تلك العمالة الوطنية التي تم الاستغناء عن خدماتها، يتحمل مسؤولية سداد قروض عقارية طويلة الأجل، هنا نأتي إلى أقسى الآثار التي لا أحد لديه القدرة على التعامل معها، المتمثلة في زيادة انكشاف القطاع التمويلي على أعداد كبيرة من الأفراد المتعثرين عن سداد مستحقات التمويل العقاري على كاهلهم، وهو ما لا قبل لأي كائن كان وطرفا من الأطراف بتحمل آثاره، بمن فيهم حتى تجار الأراضي والعقارات.
تعني تلك المخاطر المحتملة في ضوء السماح بتصاعد الأسعار وتضخمها، تزامنا مع تصاعد أحجام التمويل العقاري على الأفراد إلى المستويات العالية جدا وفقا للسيناريو الثاني “قريبا من مستوى 1.0 تريليون ريال”، بغض النظر عن الرقم الإجمالي المرتفع جدا لحجم جميع أنواع القروض المصرفية “نحو 1.4 تريليون ريال”، كل ذلك يحمل معه زيادة متصاعدة في الأعباء المالية المرهقة جدا على كاهل الميزانية العامة، التي ستأتيها من تحمل أجزاء كبيرة من الفوائد المصرفية كدعم لتلك القروض، المقدر وفقا لما تقدم ذكره أن تتجاوز 0.5 تريليون ريال على أقل تقدير، هذا عدا تحملها أعباء إضافية ترتبط بالارتفاع الكبير والمستمر الذي سيطرأ على معدل التضخم محليا، ذلك أن السماح باستمرار ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات والإيجارات، لن يقف أثره السلبي عند مجرد ارتفاع حجم المديونيات على الأفراد المقترضين من المجتمع، بل سينعكس سلبًا على مستويات أسعار مختلف الخدمات والمنتجات في السوق المحلية، لتسجل ارتفاعات متتالية لابد أن تقابلها برامج حكومية ذات تكلفة عالية، تستهدف تخفيف حدة الآثار التضخمية على تكاليف المعيشة بالنسبة إلى الأفراد، ومثلها على تكاليف الإنتاج والتشغيل بالنسبة إلى منشآت القطاع الخاص، وهي التكاليف التي يمكن التنبؤ بها في ظل البيانات المتوافرة الآن، إلا أن فواتيرها على كاهل الميزانية العامة ستأتي بكل تأكيد باهظة جدا، يأتي الحديث هنا فقط دون النظر إلى ما قد تضطر إليه الحكومة من زيادة لازمة في مستويات الأجور وبدلات ارتفاع تكلفة المعيشة، الذي سيصل بإجمالي فاتورة الدعم ومقابلة مثل تلك الصدمات المحتملة إلى مستويات قياسية من الأموال والجهود.
بالعودة إلى أهم وأخطر حجر مما سبق الحديث عنه، ممثلا في احتمال زيادة انكشاف القطاع التمويلي على التعثرات المحتملة للمقترضين من الأفراد، لأي سبب من الأسباب التي تمت الإشارة إليها أعلاه، فهذا هو الصداع المزمن الذي تكابد جميع الاقتصادات حول العالم لمنع حدوثه، وتستهدف منع حدوثه السياسات الاقتصادية والمالية في كل اقتصاد، وهو تثبت مخاطره الكبيرة جدا مسلسل الأزمات المالية العالمية التي حدثت في عديد من الدول طوال العقود الثلاثة الماضية، كان الاقتصاد السعودي بفضل الله في منأى عنها، نتيجة للسياسات المالية والنقدية الحصيفة التي انتهجها، وقد نرى ابتعادا كبيرا عن تطبيق تلك السياسات التي أثبتت نجاحها، في حال تم الاندفاع خلف ضخ مئات المليارات من التمويل العقاري دون قيد أو شرط، ودون التعامل كما يجب مع التضخم الراهن في أسعار الأراضي والعقارات.
ختامًا، يتفق الجميع على أهمية رفع نسب تملك الأفراد مساكنهم وفق الجداول الزمنية المحددة، لكن في المقابل لابد من النظر بأهمية قصوى أيضا إلى جانب الارتفاع الراهن في نسب المديونيات طويلة الأجل على ذات الأفراد، وألا تختل العلاقة في هذا الخصوص، بما قد ينعكس سلبيا على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي المحلي. والله ولي التوفيق.