تتعدد وتتنوع أشكال الخمول التي أصابت اقتصادنا الوطني بكثير من الآثار السلبية، يأتي في مقدمتها: أولا: تخزين الأموال والثروات بأحجام طائلة في أصول خاملة كالأراضي، وانتظار ارتفاع أسعارها عبر الزمن، وهو ما يحدث فعلا أن ترتفع الأسعار، وتزداد وتيرة الارتفاع بمعدلات قياسية، إذا ما سيطرت أي تشوهات على سوق العقار، كالاحتكار والمضاربة على مساحات شاسعة من الأراضي، ما يؤدي بدوره إلى ضخ عديد من الآثار السلبية في الاقتصاد الوطني، ووضعه تحت ضغوط هائلة تضعف معدلات نموه، وتزعزع ركائز استقراره، من أبرز تلك الآثار السلبية على سبيل المثال لا الحصر:
1 – الارتفاع الزاحف لمعدلات التضخم، فترتفع تكاليف المعيشة على الأفراد من جانب، ومن جانب آخر ترتفع تكاليف الإنتاج والتشغيل على المنشآت، يحدث ذلك من خلال الارتفاع في تكلفة تملك أو استئجار العقارات، نتيجة الارتفاع المطرد في أثمان الأراضي، وكل هذا يفضي إلى زيادة استقطاع أقساط تملك المساكن والعقارات، وارتفاع أقساط الإيجارات السكنية والتجارية والخدمية التي تؤدي بدورها إلى إرهاق ميزانية الأسر، والضغط أيضا على منشآت القطاع الخاص لرفع أسعار منتجاتها وخدماتها التي قد تضطر أيضا في مراحل لاحقة إلى زيادة الأجور المدفوعة للعمالة لديها، وكل هذا سيؤدي في مجمله إلى إحداث مزيد من الضغوط الشديدة أيضا على ميزانية الأسر، ليدخل الاقتصاد والمجتمع في حلقة مفرغة متصاعدة لصعود الأسعار دون توقف، السبب الرئيس وراء كل هذا الارتباك الاقتصادي يبدأ من خلل جوهري، لو تمت معالجته بشكل مبكر لما حدث ما حدث.
2 – ومن الآثار السلبية أيضا؛ أنه كلما حظيت الأموال والثروات المخزنة والمدورة في الأراضي “الأصول الخاملة” بمزيد من الأرباح وتناميها عاما بعد عام، أدى ذلك إلى اجتذاب مزيد من الأموال والثروات، سواء تلك الباحثة عن فرص استثمار محلية، أو تلك التي جاءت نتيجة إغلاق نشاطات لمنشآت كانت عاملة ومنتجة، لكنها اصطدمت بانخفاض أرباحها أو خسارتها، لعدم قدرتها على التكيف مع ارتفاع تكاليف التشغيل والإنتاج بالتزامن مع انكماش إيراداتها، ما دعا ملاك تلك المنشآت إلى التوقف، واللحاق بالركب الواسع والمتعاظم نحو تخزين وتدوير الأموال والثروات في مجرد أراض، والفوز بأعلى معدلات الأرباح دون أي جهد أو تكلفة أو مخاطرة يتحملها أصحاب تلك الأموال والثروات! هذا الاجتذاب للأموال نحو أصول خاملة لا تقدم نموا ولا توظيفا ولا قيمة مضافة للاقتصاد، على حساب الأصول المنتجة التي تقدم النمو والتوظيف والاستقرار للاقتصاد، كلما اتسعت دائرته، زادت مخاطره على الاقتصاد والمجتمع الذي تتفشى فيه، من تلك المخاطر ارتفاع معدلي التضخم والبطالة، وتدني معدل النمو الحقيقي للاقتصاد، وتآكل الطبقة المتوسطة من المجتمع نتيجة تآكل قوتها الشرائية، وزيادة الضغوط المعيشية على الطبقات الأدنى دخلا، بالتزامن مع الزيادة المفرطة لتفاوت مستويات الدخل.
ويزداد الوقع السلبي على الاقتصاد والمجتمع، إذا تفشى الشكل الآخر من الخمول في الاقتصاد الوطني، ممثلا في ثانيا: التستر التجاري، الذي يسلم زمام الأمور في القطاع الخاص إلى أيدي العمالة الوافدة، والاكتفاء بالشحيح من الأموال ثمنا لهذا التستر، مقابل منح الضوء الأخضر لحصاد مئات أو آلاف أضعافها لمصلحة العمالة الوافدة، ومن ثم ترحيلها إلى خارج الحدود! وتصبح الأمور أكثر تعقيدا، إذا تحولت الأثمان القليلة للتستر التجاري في مجموعها إلى ما يمكن ضخه في المضاربة على الأراضي، لتكتمل بذلك فاجعة الاقتصاد!
هذا الشكل الآخر من الخمول في الاقتصاد، يعني أيضا أن جزءا لا يستهان به من الأصول المنتجة التي يعول عليها في النمو الاقتصادي والتوظيف وتنويع قاعدة الإنتاج المحلية، لم يعد لها أن تحقق كل ذلك أو حتى البعض منه، بل تحولت إلى معول نهش لنمو الاقتصاد واستقراره، وإلى قناة أكبر لاستقدام مزيد من العمالة الوافدة على حساب توطين الوظائف، وكلتا النتيجتين لا تخدم بأي حال من الأحوال الهدف المأمول المتمثل في زيادة تنويع قاعدة الإنتاج.
وكما أن الشكل الأول من الخمول في الاقتصاد “تخزين وتدوير الأموال في الأراضي” قد تسبب في إلحاق أشد الأضرار بالمنشآت العاملة في القطاع الخاص، من خلال رفع تكاليف التشغيل والإنتاج عليها، فإن خطر الشكل الثاني من الخمول في الاقتصاد “التستر التجاري” لا يقل عن سابقه، بل قد يتخطاه في عديد من الأنشطة الاقتصادية، لما له من آثار سلبية في اتجاه إضعاف أشكال المنافسة، وإغراقه السوق المحلية بكثير من المنتجات والسلع والخدمات المغشوشة التي يخدمها انخفاض أسعارها، مقارنة بمثيلاتها ذات الجودة، التي نتيجة لهذه المنافسة غير العادلة على الإطلاق، سيكون مصيرها في نهاية الأمر الخروج من السوق والتوقف عن ممارسة النشاط.
ليس هناك أصعب من هذا الواقع في أي اقتصاد حول العالم، أمام أي واضعي سياسات وبرامج للتنمية والتخطيط الاقتصادي! ووفقا لما أثبتته التجربة محليا قبل الاستناد إلى تجارب أخرى واسعة خارج الحدود، فإن وقوف مثل تلك العوائق الخاملة في وجه أي سياسات مهما كانت قوتها، وفي الوقت ذاته تمنع وتصلب حل تلك العوائق أو الأشكال من الخمول في أي اقتصاد مهما كان، يؤكد أن مصير أي سياسات أو برامج مهما كانت دقتها، في ظل هذه التحديات الكامنة، مآله إلى الفشل الذريع ولا غير ذلك.
يقتضي كل ما تقدم ذكره من تحديات جسيمة، أن يبادر واضعو السياسات والبرامج المستقبلية بالعمل المكثف والمستمر لأجل القضاء على مختلف أشكال الخمول في الاقتصاد، وتنقية الاقتصاد الوطني منها بأكبر قدر ممكن من القوة والحزم والجدية.