ذكرتُ مسبقاً أن عدد العاملين في قطاع التشييد والبناء يتجاوز الثلاثة ملايين؛ لكن العدد بالحقيقة تخطى الثلاثة ملايين بكثير! ولعل من المفيد بيان هذه الحالة كمثال للتعرف على مدى التفاوت في البيانات لدرجة أن الأمر يستوجب وقفة تأمل ووضع سياسة وتقنين منهجية وإجراءات مقننة حتى تتوافق الإحصاءات الرسمية ولا تتعارض.
فالحالة العملية تبين مدى الحيرة التي يقع فيها الباحث، ويمكن تلخيصها في المثال التالي: يذكر تقرير مسح القوى العاملة (1435هجرية الدورة الثانية) في الجدول رقم (45) من التقرير الصادر عن مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات، والمنشور على موقع المصلحة على الإنترنت، أن عدد المشتغلين (15 سنة فأكثر) حسب المجموعات الرئيسية للنشاط الاقتصادي والمنطقة الإدارية يزيد قليلاً عن 11 مليوناً، منهم أقل من مليون ونصف (تحديداً 1,416,700) يعملون في التشييد، في حين أن التقرير السنوي لوزارة العمل للعام 2013 والمنشور على موقع الوزارة، يذكر في الجدول رقم (48) الصفحة 111 تحت عنوان «العاملون على رأس العمل في منشآت القطاع الخاص حسب النشاط الاقتصادي الرئيسي، الجنس، والجنسية للعام (2013) أن الإجمالي الكلي للعاملين أقل من عشرة ملايين (نحو 9.7 مليوناً)، وأن عدد العاملين في قطاع التشييد والبناء يزيد عن أربعة ملايين، وستمائة ألف (تحديداً 4,676,359)، ولعل الرقم تعدل بعد الحملة التصحيحية للعمالة الوافدة.
لكن ثمة تفاوت كبير بين إحصاءات العمالة في المصدرين (مصلحة الإحصاءات العامة ووزارة العمل)، وتجدر الإشارة إلى أن البيانات أعلاه منشورة رسمياً من قبل كلٍ من الجهتين على الإنترنت، والسؤال هو: إن أتى باحث لعمل دراسة أو تحليل فأي الرقمين يستخدم؟ سيقع في حيرة، فكلا الجدولين المشار إليهما أعلاه صادر عن جهة رسمية ومخولة عملياً سيستخدم الرقم الذي يوافق توجهاته، أو الذي يطمئن له أكثر، أو قد يأخذ المتوسط الحسابي للرقمين.
كل هذه المعالجات غير ملائمة؛ فهي تعني أن كل باحث سيصل إلى رقمٍ خاصٍ به عن عدد العمالة الوافدة إجمالاً، وعن عدد العمالة في القطاعات الاقتصادية على تنوعها، وهذا أمر سيجعل الدراسات والتحاليل تصل إلى توصيات وحلول متعارضة، تصور أن ثمة باحثاً يبني دراسةً له بأن المشتغلين في التشييد يمثلون نحو 12 بالمائة من جملة المشتغلين، فيما يصل باحث آخر إلى أن نسبتهم تعادل أكثر من 48 بالمائة!
لست هنا في مقام المفاضلة أو المضاهاة بين التقريرين، وليس هذا هو الهدف من إيراد المثال، بل بيان أن اللوحة الفسيفسائية عن اقتصادنا السعودي نَرسمها بالأرقام التي ننشرها، وإتقان اللوحة هو محصلة لجودة تلك الأرقام ودقتها، ففي نهاية المطاف ندرك جميعاً أن هناك إحصائية واحدة صحيحة، وهي التي يجب أن تنشر، ولا سيما فيما يتصل بالمؤشرات الرئيسة ذات الصلة بالاقتصاد الوطني؛ فإحصاءات العمالة ليست هامشية الأهمية، فهي تمثل سوق العمل برمته، وتلك السوق تعني اقتصادنا الوطني بقضهِ وقضيضه. يضاف لذلك، أن اقتصادنا غداً اقتصاداً رئيساً في العالم، ولا بد من الاعتناء بإتاحة البيانات والمعلومات الرسمية عنه من حيث الدقة، الوتيرة، التوقيت، والاعتمادية، ويضاف لذلك الإلتزام – ما ذكرته هنا قبل أيام – بالروزنامة الاقتصادية، أي أن ننشر بيانات ومؤشرات محددة في تواريخ محددة، كما هو الديدن في جلّ الاقتصادات الرئيسة في العالم.
المصدر: جريدة اليوم