عقار

د. ملحة عبدالله: حينما تعلو المدن!

د. ملحة عبدالله

يذكرني هذا الأمر بما فعله المفكر والمؤسس المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز حينما أراد التغيير والبناء، فعمل على سياسة (الهجر)، وهي أن أجبر البدو على البناء على الأرض، ثم ربط بينها بشبكة طرق فكانت الدولة تبنى للمرة الأولى ثم يأتي الأمر الأهم وهو بناء الذهنية والوعي الذي تولد من ارتباط الفرد بالأرض..

لن يكون هناك مفكرون ولا علماء ولا فلاسفة في مدن متهاوية ضعيفة هزيلة محتربة، وهذا ما أكده لنا تاريخ الفكر والفلسفة.

هب أننا قد وجدنا بعضهم في مدن غير ذات قيمة، لكننا سنجد هناك ضعفًا في التجديد والتحديث، فهذا التجديد لا يتأتى سوى بتحديث جديد في المحيط والبيئة والمناخ العام.

أبدى أحد الأشخاص ملاحظة للفيلسوف ويتجنشاين Wittgensstein تساءل فيها: كيف كان الأوروبيون أغبياء في العصور الوسطى قبل كوبرنيكوس؛ إذ نظروا إلى السماء وظنوا أن الشمس تدور حول الأرض”؟ فيجيب الأخير: وكيف يمكن أن تكون عليه الحال لو أن الشمس كانت بالفعل تدور حول الأرض؟

وهذا الرفض للعلم والعلماء في العصور الوسطى أوصلهم إلى الإعدام جميعًا آنذاك، نتاج الفكر ووهن المدن والمدنية والوعي!

فالإبداع ينبت أينما حل، لكن من يرضعه بماء الخلود هم البشر، وهو الوعي، فإبداع تلقي المحيط لا يقل أهمية عن إبداع الابتكار.

ولذا كان لزامًا من هذه الهبة في تغيير بنية المدن ليس على مستوى المعمار والطرقات بقدر ما هو في الذهنية نفسها التي تصحب ذلك التغيير.

وإذا ما رجعنا إلى تاريخ الفكر والفلسفة وأولى لبناته في البنية العالمية القديمة، فسنجد أن العلماء والفلاسفة يهربون إلى الرمز والأساطير التي نراها في الإبداع اليوناني والروماني، فذهبوا إلى ما وراء الطبيعة، وعلقوا فلسفاتهم في السماء خوفًا على أعناقهم، ومن تلك الأفكار – على سبيل المثال – جبل الأولمب وما به من أحداث اخترعها الكتاب لطرح فلسفاتهم لتفسير مبررات هذا الكون والتحكم فيه؛ للاستئناس بعوالم يقترب منها لإزاحة الوحشة والجهل بما وراء الطبيعة! هو نوع من عجز العقل البشري، فهو غير قادر على الفهم في فك شفرات ما وراء الحجب آنذاك!.

ومن هنا كانت تظهر لنا تلك الأساطير أمثال زيوس أو جويبر وأثينا وأجاممنون وما تعج به دفتا الإلياذة والأوديسة!

وحينما ارتفع نجم أثينا والمدَنيَّة الجديدة في حكم بركليس، آخذة في التطور والازدهار أزهر الفن والأدب والعلم والصناعة، اجتذبت إليها الحكماء والمفكرين من جل المدن اليونانية الأخرى. نشطوا كما نشط كل شيء، فالأديب والمفكر مثل مصباح علاء الدين يظل خاملاً لا يخرج المارد من جوفه حتى نفركه بكلتا اليدين.

وللفرك عليه له دلالة كبيرة في أن الحركة وكسر الجمود والرغبة في التغيير رغم الخوف من المَرَدَة والشياطين أمر لا بد منه، فالتغيير في المحيط هو ما يحفز الفكر والذهن والموهبة، فالحكايات والأساطير لم تكن هباء هكذا، وإنما لاكتشاف قدرة الذهنية وإيقاظها من سباتها وإخراج ما بها من أسرار.

ومع تلك النهضة الأثينية وما صاحبها من بناء ذهني وعقلي ومعرفي، ظهر لنا ذلك المغير الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض حينها، وتغير الفكر البشري كافة بمقولته الشهيرة، التي لا تزال حتى يومنا هذا “ابدأ بنفسك”.. فسقراط الملقب بالمعلم الأول، وهو الذي غيَّر الفكر العالمي منذ ظهوره، وهو الذي لا تزال فلسفته معينًا ينهل منه الفكر العالمي حتى يومنا هذا، وذلك لعدة أسباب أولها أنه جعل هدفه أعماق النفس البشرية، فتغيرت الدراما من مسرح ورواية وشعر وملاحم وغير ذلك، فقضى على كل سابقة من ميتافيزيقية.

الأمر الثاني والمعين له في تحقيق منهجه في ذلك الغوص من أجل التغيير هو منهج التأمل والتفكير، والجدل والحوار، وبذلك كان سقراط أول من ابتدع منهج الحوار للوصول إلى الحقيقة والمعرفة، ثم يأتي الأمر الثالث وهو الأهم، وهو الاهتمام بالشباب، فبناء الذهن لن يكون يسيرًا إلا بالشباب. فكانوا هم هدفه وسبيله للخروج من العقل الدجمى، الذي تأكسد على مفاهيم امتلكوها، حتى إن أصحاب المصالح السياسية حينها اتهموه بأنه يؤلب الشباب ويفسده.

يقول في هذا الأمر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: “ذلك لأن الشيوخ بعد اتباعهم التقاليد الجارية طول عمرهم يجمدون عليها ويصعب عليهم تغييرها”.

والأمر الأخير أنه كان فيثاغوريًا، ذا أفكار رياضية، فأراد أن يستخدمها بتحويل المحسوس إلى ملموس، وبذلك يستطيع الإقناع والوصول إلى الوجدان. ولتطبقيها على الأمور الإنسانية، محاولاً الوصول إلى تعريف للمفهومات الأخلاقية والسياسية والدينية والفنية “لم يكن لهذا المفكر والفيلسوف الكبير من النجاح والوصول إلى مبتغاه إلا بذلك البناء المدني الذي اهتم بالوعي كمعمار ذهني.

نحن الآن وفي كل وطننا العربي بل في العالم أجمع إذا ما بسطنا كفنا له، نرى هذا التطلع إلى نسج ثوب جديد من الفكر ومن التجديد في الخطاب ومن تطور أساليب الحوار والفكر والتأمل.

يذكرني هذا الأمر بما فعله المفكر والمؤسس المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز حينما أراد التغيير والبناء، فعمل على سياسة (الهجر)، وهي أن أجبر البدو على البناء على الأرض، ثم ربط بينها بشبكة طرق فكانت الدولة تبنى للمرة الأولى ثم يأتي الأمر الأهم وهو بناء الذهنية والوعي الذي تولد من ارتباط الفرد بالأرض، فأسس رحمه الله لمفهوم الوطن والمواطنة؛ لأن الملكية الفردية جعلت منهم غير ذي وتد يدقونه أينما اتجهوا. فأسس رحمه الله بذلك جيشًا قوامه أربعون ألفًا كانوا يدافعون عن أرضهم، التي انتموا إليها، وأصبحت لهم فيها أعمدة وأحجار وأملاك وأرض، ومفهوم قوي بمعنى الانتماء، فكانت الدولة التي لم يستطع أحد مقاومتها.

ولذلك فإن بناء المدن بما تحويه من أذهان قداحة مفكرة تنبت وتزدهر وتؤتي ثمارها ببناء المحيط والبيئة الحاضنة.

المصدر

نشر

جديد الاخبار

خلال 96 ساعة من طرحها؛ “رتال” للتطوير العمراني تبيع 700 وحدة سكنية

إنجاز جديد ورقم قياسي حققته شركة "رتال" للتطوير العمراني في مبيعاتها لمشروع "نساج تاون الرياض"…

19 أكتوبر 2020

إزالة تعديات على أراضي حكومية مساحتها 100 ألف متر مربع في العرفاء

أزالت أمانة الطائف، تعديات على أراضي حكومية تجاوزت مساحتها 100 ألف متر مربع، كانت بلدية…

31 يوليو 2020

إزالة تعديات على أراضي حكومية في المدينة المنورة مساحتها 650 ألف متر مربع

تمكنت البلديات الفرعية والضواحي التابعة لأمانة المدينة المنورة، من إزالة تعديات على أراضي حكومية مساحتها…

31 يوليو 2020

حامد السهيل: «شايلوك» واحتكار العقار!

في المسرحية الشهيرة «تاجر البندقية» للكاتب الإنكليزي الأشهر وليام شيكسبير والتي كتبها في عام 1596،…

31 يوليو 2020

طرح 850 قطعة سكنية وتجارية بمخطط المنار شرق عنيزة بالمزاد العلني

تطرح الجود للاستثمار والتطوير العقاري، أكثر من 850 قطعة سكنية وتجارية في المزاد العلني في…

31 يوليو 2020

بدر الحمدان: العنصرية العمرانية

في بداية حياتي الجامعية، وبعد السنة الأولى سألت معيداً مصرياً درّسنا الرسم الهندسي ليساعدني في…

31 يوليو 2020