د. مشاري النعيم: موسم الرياض ومفهوم المدينة الحيّة

موسم الرياض أتى ليؤكد وجهة نظري حول مفهوم المكان الحضري وعلاقته بالمدينة الحية، فأنا أرى أن هذا الموسم بث في المدينة طاقة مذهلة حتى تلك الأماكن التي ظللنا نشتكي من فقر الحضور الاجتماعي فيها..

يبدو أن موسم الرياض صار يتحدى كثيراً من المفاهيم التخطيطية للمدينة التي أكاد أن أجزم أن كثيراً من الزملاء يؤمن بها، وهي أنه يفترض أن نصنع الفراغ الحضري الملائم إذا ما أردنا أن نجذب الناس للمكان، أي أن هذه النظرية كانت تقول إن المكان أولاً إذا ما أردنا أن نصنع مدينة حية، موقفي الشخصي كان مغايراً تماماً لهذا التوجه، فقد كنت أرى أن الناس هم الذين يصنعون الفضاء الحضري الحي، أي أن الناس هم من يشكلون مع الوقت بؤر الحياة في المدينة والتي يفترض أن يتشكل النسيج الحضري على ضوئها، وتبدأ خيوط الترابط العمراني بالتشابك من خلال العروق الجديدة التي تنقل الحياة.

شخصياً لا أعتقد أن “مدينة مصممة” معمارياً وحضرياً بشكل كلي يمكن أن تدب فيها الحياة هكذا، لقد شاهدت ذلك في مدينة “بتروجايا” العاصمة الجديدة لماليزيا فهي مصممة ومبنية بعناية فائقة، لكن مضى عقدان حتى الآن ولم تدب فيها الحياة رغم قربها الشديد من كولالمبور. حياة المدينة سر غامض يصعب التكهن به، لكن بكل تأكيد يكمن في ميول الناس ورغباتهم وليس في ميول المعماري والمخطط.

ولكن ما علاقة كل هذه المقدمة بموسم الرياض؟، في البداية يجب أن أقول إنني كونت رأيي بناءً على مشاهداتي للشارع الثقافي في طريق التحلية (الأمير محمد بن عبدالعزيز) والنشاطات المجتمعية والثقافية التي حدثت قبل سنوات وكيف أصبح الطريق ينبض بالحياة رغم أن الطريق مجهز قبل عشر سنوات تقريباً من تلك الأحداث، ودار النقاش في ذلك الوقت وعبر هذه الصحيفة حول سؤال: الناس أولاً أم المكان حتى تحيا المدينة؟

البعض رأى أن وجود الشارع هو الذي سمح بظهور هذا النشاط، لكن رأيي كان أن أي مكان لا يحيا بالتصميم والترصيف والإنارة ولكن بالنشاطات الثقافية والاجتماعية والترفيهية التي تعيد تفسير المكان وتعطيه معانيَ وأبعاداً متعددة.

موسم الرياض أتى ليؤكد وجهة نظري حول مفهوم المكان الحضري وعلاقته بالمدينة الحية، فأنا أرى أن هذا الموسم بث في المدينة طاقة مذهلة حتى تلك الأماكن التي ظللنا نشتكي من فقر الحضور الاجتماعي فيها، وأقصد مركز الملك عبدالعزيز التاريخي والأماكن المشابهة له تحولت بقدرة قادر إلى أماكن يؤمها الشباب والشابات وحتى الأسرة بجميع أفرادها أصبحت جزءاً من هذا الفضاء، المكان كان موجوداً قبل ثلاثة عقود، فلماذا لم تدب فيه الحياة إلا مؤخراً؟، والأهم من ذلك كيف أقنع موسم الرياض الناس بالعودة إلى مكان كانوا يعتبرونه خارج خارطتهم الحضرية؟

لعلي الآن أقل تطرفاً في قبول منهج وسطي يوازن بين وجود المكان الملائم (وليس المصمم بالضرورة) وبين وجود رؤية تصنع الحياة في المكان وتحرر الفضاء الحضري من القيود الاجتماعية المختلقة الذي جعلت من الرياض ولعقود طويلة مدينة تفتقر للحياة، والذي يبدو أن هذه الحياة الجديدة نابعة من الإحساس الداخلي لدى الأفراد أنهم غير مراقبين من الآخرين أو أنهم يمارسون ما يمارسه الآخرون، إذاً المدينة الحية هي ليست الأمكنة التي تحتويها فقط، بل هي شعور داخلي لدى سكانها بأنه من حقهم ممارسة الحياة بشكل طبيعي.

لقد شجعتني هذه المشاهدات على التفكير في مصطلح نادر الاستخدام وهو “أنثروبولوجيا العمارة” وهو مصطلح يهتم بالناس أكثر من العمارة نفسها، لكنه يفك شفرة الشكل المعماري والأمكنة الحضرية في المدينة من خلال وجود الناس بها، ربما يلاحظ كثير من الناس أن الأماكن الأكثر حياة في مدينة الرياض هي الأماكن التي تحقق شعوراً أكثر بالحق في الحياة، أنثروبولوجيا العمارة قد تساعدنا في فهم التاريخ الاجتماعي للأمكنة، وتوقع ما يمكن أن يحدث لها في المستقبل، لكنه مصطلح يحقق متعة الاكتشاف بشكل عام لأنه يفكك الشفرات المختبئة داخل الأشكال عندما تتجلى في ممارسة الناس للحياة.

المصدر