عقار

د. مشاري النعيم: مقاس المدينة يحدد جودة الحياة

د. مشاري عبدالله النعيم

جودة الحياة لا تقاس بسعة المدينة وكبرها ولا حتى بتعدد الخدمات التي تقدمها بل يبدو أن هناك سراً كامناً «يلبد» في ثنايا الروح التي «تتلبس» المكان وتجعلنا نرى «الجمال العبقري» في بعض الأمكنة التي مر عليها قرون، وتداعت جدرانها تستصرخ من يسندها لكنها تضج بالإنسانية، ليس لأنها تاريخية أو قديمة بل يبدو لأن من بناها كان يفهم «المقاس الإنساني»..

يبدو أن عين الإنسان بفطرتها ترتاح للمشاهد المفعمة بالبساطة والحركة حتى تلك المشاهد التي تمر علينا عبر النصوص التي نقرؤها خصوصاً النص القرآني، الذي غالباً ما يصور المشاهد تصويراً حركياً يمتلئ بالحياة، فالصبح يتنفس والليل يسر والأرض تهتز وتربو وتولد منها الحياة بمجرد ما يمسها الماء.

هذه المشاهد الحركية في واقع الأمر تعبر عن التفاصيل الصغيرة المحيطة بنا التي تحدد جودة الحياة وتصنعها بشكل عميق في الأمكنة التي نتقاطع معها يومياً، كما أنها تعبر عن التكوين النفسي للإنسان الذي يتأثر بهذه المشاهد وتغريه حيويتها بالحياة.

سوف أتحدث هنا عن جمال المكان العفوي بكل “تقاطيعه” البسيطة التي لا تحتاج إلى عناء كبير أو تكاليف باهظة بل تحتاج إلى حس فني مرهف هو في الأساس موجود داخل كل منا، وإطلاق للبساطة التي تكمن في أعماقنا وتنظيفها من العبث البصري و”الحياتي” الذي جعلها تتوارى وتختفي داخل المدينة العبثية المعاصرة التي تمتد إلى ما لا نهاية دون حدود، حتى إنها صارت تتحدى الأفق الجميل المرتسم في أذهاننا وتتغلب عليه.

تذكرني الغشاوة التي تولدها المدن الكبيرة على الأبصار بذلك التعبير القرآني الذي يجسم الصورة المعنوية ويحولها إلى كيان مادي محسوس نكاد نلمسه بأيدينا (فأغشيناهم فهم لا يبصرون)، (أم على قلوب أقفالها)، (وفي آذانهم وقرا)، ويبدو لي أن الحاجز الذي تصنعه الفضاءات الكبيرة المصابة بالشيخوخة والمترهلة من حيث التفاصيل هو حاجز يمنع الإنسان الطبيعي من رؤية وسماع ولمس الجمال التلقائي في نفسه ومخيلته، ويخلق تنافراً نفسياً يجعله لا يدرك المعنى الحقيقي لبساطة التفاصيل وصفاء الصورة التي يمكن أن تحققها الأماكن الصغيرة. لذلك فإن المدن الكبيرة غالباً لا تستطيع “خلق” الإحساس بالجمال، وغالباً ما يتشكل الإحساس الكلي بالراحة في المدن الصغيرة ذات التفاصيل العميقة والمدروسة؛ لأننا ببساطة نستطيع أن نرى الأشياء ونلمسها ونشمها ونستمتع بها. ربما هذا يبرر التحول في المفهوم المديني في نهاية القرن العشرين للمدن الأوروبية الكبيرة، حيث أصبحت باريس الممزقة هي فقط باريس التاريخية، وروما هي تلك المدينة القديمة التي كانت داخل السور، أما باقي المدينة فليس له قيمة جمالية يمكن التوقف عندها.

جودة الحياة لا تقاس بسعة المدينة وكبرها ولا حتى بتعدد الخدمات التي تقدمها بل يبدو أن هناك سراً كامناً “يلبد” في ثنايا الروح التي “تتلبس” المكان وتجعلنا نرى “الجمال العبقري” في بعض الأمكنة التي مر عليها قرون، وتداعت جدرانها تستصرخ من يسندها لكنها تضج بالإنسانية، ليس لأنها تاريخية أو قديمة بل يبدو لأن من بناها كان يفهم “المقاس الإنساني”، ويعي أن البشر يحتاجون للمكان الذي يشعر بهم كي يشعروا بدورهم به.

هناك ما أسميه “إيقاعاً” مكانياً، وهذا الإيقاع يرتفع وينخفض حسب المكان، فمرة تحتبس أنفاسنا ومرة ترتخي، وفي كل إيقاع تتشكل تفاصيل تعبر عن روح المكان وجودته. لذلك عندما يتحدث البعض عن “جودة الحياة” أحاول أن أفهم “ما هي؟”؛ لأن معادلة الحياة لا تكتمل إلا بمجموعة من التفاعلات التي تكون “الأمكنة” مسرحها ومجال التعبير عنها، وبالتالي يمكن أن نقول:

إن جودة الحياة تساوي جودة المكان. بالنسبة لي أرى أن الإيقاع المكاني الذي يضبطه الانسجام والتناسق والتوافق والتنوع الذي تعززه الصورة المفعمة بالحركة والحياة هو الذي يحقق جودة الحياة، لذلك عندما تمر بمكان وترى قلبك يقفز أو يتحرك فاعلم أنك في مكان ذي قيمة كامنة يصعب وصفها.

المأزق الذي تعيشه المدن المعاصرة هو التوسع المطرد الذي تغذيه الرأسمالية العقارية التي لا تعتد أصلاً بقيم الحياة ولا بأبعادها الإنسانية، بل تهدف إلى تجمعات بشرية عملاقة تمكنها من تسويق منتجاتها الاستهلاكية.

إنها ترى في المدينة مصنعاً كبيراً أو آلة عملاقة يتحرك داخلها الناس مثل ما تصوره مدن الخيال العلمي الهوليودية الجافة الخالية من الحياة. هذا الاندفاع المحموم نحو ميكنة

الحياة يتجاوز التعبير القرآني الذي يذكر الإنسان بعلاقته الفطرية مع الأرض: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، وأن أي مفهوم للمكان يجب أن يستحضر هذه العلاقة العفوية التي تربط الإنسان بالمكان البسيط العفوي الذي نشأ منه.

المصدر

جديد الاخبار

خلال 96 ساعة من طرحها؛ “رتال” للتطوير العمراني تبيع 700 وحدة سكنية

إنجاز جديد ورقم قياسي حققته شركة "رتال" للتطوير العمراني في مبيعاتها لمشروع "نساج تاون الرياض"…

19 أكتوبر 2020

إزالة تعديات على أراضي حكومية مساحتها 100 ألف متر مربع في العرفاء

أزالت أمانة الطائف، تعديات على أراضي حكومية تجاوزت مساحتها 100 ألف متر مربع، كانت بلدية…

31 يوليو 2020

إزالة تعديات على أراضي حكومية في المدينة المنورة مساحتها 650 ألف متر مربع

تمكنت البلديات الفرعية والضواحي التابعة لأمانة المدينة المنورة، من إزالة تعديات على أراضي حكومية مساحتها…

31 يوليو 2020

حامد السهيل: «شايلوك» واحتكار العقار!

في المسرحية الشهيرة «تاجر البندقية» للكاتب الإنكليزي الأشهر وليام شيكسبير والتي كتبها في عام 1596،…

31 يوليو 2020

طرح 850 قطعة سكنية وتجارية بمخطط المنار شرق عنيزة بالمزاد العلني

تطرح الجود للاستثمار والتطوير العقاري، أكثر من 850 قطعة سكنية وتجارية في المزاد العلني في…

31 يوليو 2020

بدر الحمدان: العنصرية العمرانية

في بداية حياتي الجامعية، وبعد السنة الأولى سألت معيداً مصرياً درّسنا الرسم الهندسي ليساعدني في…

31 يوليو 2020