تتنوع أساليبُ الناس في التعاملات، امتداداً لاختلاف الطبائع والاختيارات، ففي كل مجتمع منهج يسير عليه الناس لتحقيق مصالحهم ولتنظيم حياتهم، وإذا اتسع العمل وتمدد، كان ذلك مظنة الوصول إلى أعراف جديدة وممارسات تجارية أجنبية، يتطلب الحال معها إلى وضوح في طرق الفصل عند الاختلاف أو التجاوز، وقد تكلم العلماء – قديماً وحديثاً – عن أهمية الفصل في نزاعات الناس واهمية الحسم والحزم.
القضاء والتحكيم طريقان للفصل في المنازعات ، ولكل طريق أسلوبه الخاص ، والفروقات كثيرة يستعاض بذكر أبرزها لتعذر الإطالة ،فالقضاء له الطابع الرسمي الحكومي، يلجأ إليه المتخاصمون لطلب الإلزام والفصل في النزاع، وله درجاته، والتحكيم قضاء أهلي ، يختاره الأطراف للفصل والإلزام بناء على شرط يسبق النزاع أو بعد حدوثه، وله قوته التي لا يطعن فيها إلا بالبطلان، ومن النزاعات ما لا يصلح لها إلا القضاء وأخرى لا يناسبها إلا التحكيم .
لكن .. هناك طريق آخر، يغيب عن ذهن الكثيرين، وبالتالي لا تكاد تراه في عقودهم ونقاشاتهم وهو : الحل بطريق الوساطة .
الوساطة تتمثل في لجوء الأطراف إلى طرف ثالث ؛ لمساعدتهما في الوصول إلى حل توافقي دون اللجوء إلى القضاء أو التحكيم، ويمكن أن يكون الوسيط مركزاً أو فرداً بحسب طبيعة النزاع ورغبة الأطراف، ينتج عما سبق توقيع الأطراف لاتفاق التسوية .
هذه الطريقة المهمة من طرق حل النزاعات لها أساليب متنوعة ومرنة (وللاطلاع على نموذج زيارة الموقع الالكتروني للمركز السعودي للتحكيم التجاري) لكن الغاية المشتركة هي الوصول ” بإرادة ” الأطراف إلى اتفاق كامل أو جزئي في مواطن الاختلاف ، ولاشك أن هذه الطريقة تقوم أساساً على الثقة في الوسيط ، وتُسيِّرُ عجلَتَها رغبةُ الأطراف نحو الانتهاء من الخلاف ، وبالتالي فإن الأصل أن ما يتم تداوله (غالباً شفهياً) لا يُقبل أن يستند عليه لاحقاً تحت نظر قضائي أو تحكيمي ، ومن حق الأطراف الاقتصار على تزويد الوسيط بالمستندات دون غيره ؛ إذ هو مهندس التوفيق والتقريب .
لذا يصدقُ أن نصف الوساطة باليد اللينة فوق طاولة المفاوضات، ومع أهمية القضاء والتحكيم في كثير من الحالات، إلا أن حرارة الفصل والإلزام تبقى آثارها على الأطراف، بينما الوساطة تأتي بأسلوب توافقي تقريبي تكون فيه النفوس أقرب إلى الرضا .
توقفت كثيراً عند هذا الحديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار : خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب. وقال الذي له الأرض : إنما بعتك الأرض وما فيها. فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه : ألكما ولد؟ قال أحدهما : لي غلام. وقال الآخر : لي جارية. قال : أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقًا “.
عندما تأملت هذا الحديث قفز إلى ذهني معنى الوساطة، فعندما لجأ الطرفان إلى هذا الرجل ، كانت الغاية الفصل بالحكم لأحدهما بهذا الكنز، إما للبائع أو للمشتري ، لكنه خرج بحل توفيقي مختلف ، وعند البحث قرأت تعليقاً للقرطبي -رحمه الله- يجزم فيه بأن ما صدر من هذا الرجل لم يكن حكماً على أحد الأطراف ، وإنما كان صلحاً بينهما ؛ لما ظهر له أن هذا المال يأخذ حكم المال الضائع وأنهما أحق من غيرهما به .
وأختم : فالوساطة طريقة مهمة من طرق حل النزاعات ، تختصر على المتخاصمين وعلى القضاء الكثير ، وأحث الزملاء المحامين وغيرهم ممن له علاقة بالصياغة، أن تكون الوساطة حلاً حاضراً في أذهاننا ، فإبرازها والنص عليها يمهد للنفوس قبولها والأخذ بها ، وليس كل نزاع لا يُحَلّ إلا بين أروقة المحاكم، بل قد يكون الحل بمصافحة لينّة من وسيط حاذق .