المدن تمثّل واجهة لسكّانها، تطورها يدل على مدى تطوّرهم، ورقيّها يفصح أيضًا عن رقيّهم، لذا فإن مفهوم المدينة لم يعد يعني مجرد مساحة مكانيّة للإقامة والسكن، وإنمّا هي هويّة تعبّر عن طبيعة حياة من يسكنها، وعن أطباعهم وأمزجتهم وأنماط تفكيرهم وهواجسهم وآمالهم، وقد تقول المدن أشياءً يعجز الإنسان عن قولها.
ولأهميّة المدينة بالنسبة للإنسان، فإن الحكومات اتجهت مؤخرًا إلى وضع معايير تقيس مدى رضا السكّان عن مدنهم، ونتج عنها مصطلح «أنسنة المدن»، وبات الفرد محور الاهتمام في البناء والتطوير، ومن هذا المنطلق سنتحدث عن أبرز عوامل الرضا المنشود الذي يسعى معظم الأفراد إلى نيله داخل المدن لينتابهم شعور بالسعادة والاستقرار.
رضا السكان يرتبط بمفهومين رئيسيين هما «الحكومة الذكية» و»المدن الذكية»، كلاهما يتصلان بآلية توظيف التكنولوجيا في تحسين جودة الخدمات وتطويرها بما يسهّل إمكانية تعامل السكان معها. ومن الأهداف الكبرى لهذين المفهومين هو هدم النمط البيروقراطي في إنجاز المهام، وتحويله إلى نموذج إلكتروني يجري إتمام اشتراطاته في ثوانٍ معدودة حتى وإن تعددت الجهات الحكوميّة المسؤولة عن مراجعته في ظل وجود شبكة موحّدة تسهم في تكامل الجهود وتقلِّل من وقت وجهد السكّان.
ومن العوامل الأساسية لتحقيق الرضا السكاني هو إرساء دعائم مشاركة الفرد في وضع خطط وإستراتيجيات التطوير، وتجنح العديد من الدول إلى تنظيم استفتاءات باستمرار لقياس مدى رضا السكّان عن مدينتهم، ولا تكتفي بالقياس فحسب، وإنما تفسح المجال أمام الإنسان لإضافة مقترحاته التطويرية والمنسجمة مع احتياجاته وفق رؤيته، وفي حال تكرر اقتراح بعينته، تسعى إلى تلبيته تماشيًا مع رغبة غالبيّة السكّان، بهدف إضفاء حسّ المشاركة الإيجابية في الإنماء، وإيمانًا بأن الخدمة تأتي أولاً لتيسير حياة الفرد وتحسين جودتها، لذا تبرز أهميّة الانطلاق من الإنسان وعدم الاكتفاء بوضع الخطط النظرية والمستنسخة من مجتمعات أخرى قد لا تتوافق مع ما يتطلبه أفراد مجتمع آخر.
وبما أن أفراد المجتمع يتفاوتون في مستوى الدخل ما بين دخل محدود ومتوسط وفوق المتوسط وأثرياء، فإن كسب رضا جميع تلك الشرائح يتطلّب توفير الخدمات العامة والأساسية بتكلفة تنسجم مع دخل كل شريحة، كالمسكن والطعام وخدمات المياه والكهرباء والوقود، وإن عجزت فئة عن تلبية أحد تلك الاحتياجات الرئيسية فإنها لن تشعر بالرضا، لذلك تتجه معظم الحكومات إلى دعم تلك الخدمات لتضمن وصولها إلى جميع السكّان دون تمييز بينهم؛ لأنها تمثّل الحد الأدنى من الرضا المعيشي في أي مدينة.
كما تُعد جماليّة الحدائق العامة والمتنزهات والطرقات والأرصفة ونظافتها من أبرز عوامل سعادة السكّان ورضاهم؛ وقد أثبتت دراسات متعددة مدى تأثير المكان على الجوانب النفسيّة والمزاجيّة لدى الأفراد، وكلما كانت الأحياء منظمة في بنائها وتخطيطها وتحوي معالم جمالية وأزهار مبهجة وأرصفة متقنة وطرقات محدّثة وحدائق نظيفة كان سكّانها أكثر سعادة، أما إن كانت الأحياء عشوائيّة وشوارعها ضيقة ومحفّرة ومعظم مبانيها متهالكة فإن الشعور السلبي والحالة المزاجية العكرة ستسود وتستفحل.
ومن أبرز الخدمات التي تشكل علامة فارقة في مدى رضا السكّان عن مدينتهم هي جودة المنشآت الصحية والتعليمية. الصحة تعني حياة أطول بأمراضٍ أقل، والتعليم يفضي إلى ثقافة أوسع ودور أكثر فاعلية، لذا يمثِّلان عصب الرضا المجتمعي، ومن هذا المنطلق تخصص الحكومات معظم ميزانياتها السنوية لتطوير هذين القطاعين، لكنهما يظلان بحاجة إلى رقابة صارمة وتحسين مستمر لضمان رضا السكان عنهما.
أخيرًا يمكننا القول بأن تنظيم الفعاليّات والأنشطة الترفيهية من شأنه أن يُحدث جوًا من الابتهاج والمتعة لدى سكّان أي مدينة، شريطة أن تنطلق الروزنامة من رؤية واضحة تُدرك ما يريده الفرد في المجتمع، وما الفعاليّات القادرة على إدهاشه وجذبه، أي أن الفعاليّة لا بد أن تتجنب مأزقين، الأول هو الرتابة والتكرار، والثاني استنساخ تجارب مجتمعات تختلف ثقافياً عن المجتمع المُراد تنفيذ الفعالية فيه، مع مراعاة اختلاف الذائقة من فئة لأخرى، ومحاولة استهداف أكبر قدر ممكن من السكّان عبر التنوع والاختلاف والابتكار.