النمو العمراني المتسارع في مدينة الرياض وغيرها من المدن الكبرى في وطننا شكَّل تحديًا كبيرًا للجهات الخدمية، وكشف عن وجود فجوة ما بين حجم النمو السكاني وسلوك المواطنين المتجه نحو التوسع الأفقي من جانب، واستراتيجيات وخطط الأجهزة المعنية، وما تمتلكه من إمكانات من جانب آخر؛ ما أنتج تحديات في الارتقاء بمستوى الخدمات الأساسية، كالطرق والمياه والكهرباء والحدائق العامة والساحات والميادين.
وما زاد من تعقيد الموقف هو أن لكل جهة مسؤولة عن تقديم الخدمة للسكان برامجها المستقلة ومستهدفاتها المنفردة التي قد تتعارض مع مستهدفات جهة أخرى، أو على أقل تقدير لا تتماشى معها زمنيًّا؛ ما يعني أننا نجد طريقًا معبدًا لم تصله الكهرباء، أو حيًّا مؤهلاً بالسكان لا تتوافر به شبكات تصريف سيول أو شبكات صرف صحي.
ولتفادي ذلك الارتباك تبرز الحاجة الملحة إلى إنشاء إدارات محلية في المدن الكبرى، تضم تحت مظلتها إمارات المناطق وأماناتها ومكاتب الوزارات الواقعة ضمن نطاق كل مدينة والشركات الوطنية المعنية بتوفير الخدمات الأساسية، ويتم من خلال تلك الإدارة توحيد الأهداف والاستراتيجيات بما يتواءم مع احتياجات المدينة بيئيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وحضريًّا، وبما يضمن تكامل الجهود في الارتقاء بجودة الحياة، وتحسين كفاءة الإنفاق في المشاريع الخدمية، وتقليص حجم الهدر المالي الناتج من تدني مستوى التنسيق بين الجهات؛ كي تتمكن مدننا من الوفاء بمعايير المنافسة عالميًّا، وتصبح نموذجًا أكثر تحضرًا تماشيًا مع رؤية 2030 الطموحة وبرامج التحول الوطني والارتقاء بجودة الحياة وتحسين المشهد الحضري.
ولا شك في أن خطوة إنشاء مكاتب تنسيق بين الجهات الخدمية القائمة حاليًا لدى بعض أمانات المناطق تعد إيجابية، وأسهمت في تذليل العديد من الصعوبات التي كانت تعيق التنمية في المدن، لكن أثرها سيظل محدودًا ما دامت غير خاضعة لمرجعية إدارة محلية، لديها الصلاحيات الملزمة، والرؤية الواضحة، وإمكانات المحاسبة والتحقق من التقدم وفق مؤشرات الأداء، وبما يتناسب مع متطلبات المدينة واحتياجات سكانها، وما تضمه من إمكانات ذات خصوصية، قد لا تتوافر في المدن الأخرى.
لذلك يمكن أن تكون تلك المكاتب التنسيقية مرحلية، وليست حلاً دائمًا، يكفل النمو الحضري المستدام والمبني على استراتيجيات محددة، تمتد إلى المديين المتوسط والبعيد.
حجم الطموحات المبثوثة في ثنايا رؤية وطننا العزيز يتطلب إعادة هيكلة لنظم إدارة المدن بعد أن استنفدت آلياتها العتيقة كل ما لديها من إمكانات. نحن في مرحلة جديدة، تحتاج إلى إدارات محلية، تدرك حجم التحديات الفريدة التي تواجهها مدينة دون غيرها، وتتحرك في ضوء مستهدفات مستقلة تنسجم مع بيئتها الجغرافية وديمغرافيتها السكانية وفضائها العمراني، وتتحقق من أن جميع الأطراف الخدمية تسير في الاتجاه ذاته مواكبة تطلعات السكان التي لطالما شددت على أهميتها قيادتنا الحكيمة -أيدها الله-.