تكتمل بعد غد الأربعاء فترة ستة أشهر (184 يوما) على إعلان موافقة مجلس الوزراء على توصية مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، بفرض رسوم على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات والمراكز، وقيام مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بإعداد الآليات والترتيبات التنظيمية لذلك، ورفع ما يتم التوصل إليه إلى مجلس الوزراء تمهيدا لإحالته إلى مجلس الشورى لاستكمال الإجراءات النظامية في هذا الشأن بشكل عاجل.
بداية؛ إجابة عن سؤال عنوان المقال قبل الاسترسال، وقياسا على ضخامة الملف التنموي الذي يتحمله، والتحديات الجسيمة المرتبطة به، لا تعد فترة نصف عام من العمل على ملف بهذا الثقل متأخرة على الإطلاق، في الوقت الذي يمكن الحديث عن حدوث مثل هذا التأخير، حال تجاوزه فترة عام كامل، وقد يتحول التأخير إلى معوق تنموي إضافي أكثر خطورة على الاستقرار الاقتصادي عموما، وعلى كاهل السوق العقارية والإسكان على وجه التحديد.
خضعت السوق العقارية طوال ما يقارب عام مضى لسيطرة عدد من العوامل، لعل من أهمها العوامل الأربعة التالية:
(1) تراجع أسعار النفط بنسب وصلت إلى 60 في المائة خلال أقل من عام. (2) بدء التطبيق الفعلي لأنظمة التمويل العقاري منذ تاريخ التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، ومن أهم بنودها اشتراط ألا تتجاوز قيمة التمويل 70 في المائة من إجمالي قيمة العقار الممول (يتحمل المشتري دفع 30 في المائة). (3) إعلان موافقة مجلس الوزراء على توصية مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بإقرار الرسوم على الأراضي البيضاء في تاريخ 23 آذار (مارس) 2015.
(4) بدء المالية الحكومية في الاقتراض الداخلي لتمويل عجز الميزانية، وهو الأمر الذي لا يشكل عبئا في الوقت الراهن على الميزانية الحكومية قياسا على تدني الدين العام الحكومي، بقدر ما إنه سيكون منافسا قويا على السيولة المحلية المتراكمة لدى القطاع المصرفي، سيحد كثيرا من مرونة إقراض القطاع الخاص مقارنة بالأعوام الماضية.
هل أثرت تلك العوامل في السوق العقارية؟ وتحديدا، هل كان لها أي أثر يذكر في مستويات الأسعار؟ وأخيرا، إلى أي مدى زمني تستطيع الأسعار المتضخمة أن (تتماسك) حسب نظر البعض في وجه تلك العوامل؟
بالنسبة إلى الجزء الأول من السؤال؛ فقدت السوق العقارية خلال الفترة الماضية المتزامنة مع تفاعل تلك العوامل نحو خمس سيولتها، وخسرت مبيعات عقاراتها أكثر 53 في المائة من مستوياتها المسجلة لنفس الفترة من العام الماضي. أما بالنسبة إلى مستويات الأسعار؛ ففقدت حتى منتصف أيلول (سبتمبر) الجاري ما بين 16 إلى 20 في المائة، مقارنة بمتوسطات أسعارها التي كانت عليها قبل عام مضى، وتعد نسبة انخفاض لا تذكر على الإطلاق مقارنة بنسبة الارتفاع القياسية في أسعار الأصول العقارية طوال الفترة 2006 – 2014.
آتي الآن إلى الجزء الأخير من السؤال حول (تماسك) الأسعار المزعوم، فأقول إذا كانت ثلاثة عوامل من بين العوامل الأربعة المذكورة أعلاه، خلفت تلك الآثار النوعية مع أول عام من بدء تأثيرها، كون العامل المؤثر المتعلق بفرض الرسوم لم يبدأ العمل به حتى تاريخه، فماذا سيكون عليه حال ذلك (التماسك) المزعوم إذا دخلت السوق العقارية عامها الثاني تحت سيطرة تلك العوامل؟ والأهم كيف ستواجه تأثير العامل الأهم المتمثل في فرض الرسوم على الأراضي؟ وكما هو مثبت بموجب البيانات الرسمية أن تضخم أثمان الأراضي، تشكل نتيجة احتكار المساحات الأكبر منها، زائدا زيادة المضاربة المحمومة على المساحات المحدودة للتداول منها. أقول كيف سيواجه السبب الرئيس وراء التضخم السعري للسوق بأكثر من 99 في المائة من أسباب ذلك التضخم، أداة الرسوم الصارمة على أساس الداء والبلاء؟
التقليل من شأن وأهمية الرسوم على الأراضي البيضاء، الذي تصدر أصواته من البعض، ومقارنته ببعض حالات دول أخرى، لا أقل من القول عنه إلا أنه ذر للرماد في الأعين، ومقارنة يسكنها الجهل المطبق إما عن قصد أو دونه، حيث لا يوجد وفقا للدراسات والبيانات الإحصائية الرسمية بلد حول العالم تتشابه حالة تشوهات الأراضي لديه مع تلك التي لدينا، ولا حتى بأعلى من 10 في المائة من التشابه! وأضع هنا واقعا رقميا مثبتا رسميا لدينا كتحد صريح لأصحاب تلك المقولة الزائفة: أن يثبت استحواذ أكثر من 51 في المائة كأراض بيضاء على مساحات أكبر المدن في تلك البلدان، التي يريد حشر البلاد والعباد في مقارنة عمياء معها. التحدي هنا، أن يقدم بلدا واحدا لا أكثر!
عامل الرسوم على الأراضي وإن رأى البعض أنه قد تأخر، إلا أنه بموجب عمق التشوهات في السوق العقارية لدينا، ولخطورة التعامل مع تلك التشوهات وما أفضت إليه من كوارث اقتصادية ومالية واجتماعية نواجهها جميعا في الوقت الراهن، يقتضي تماما عدم التعجل، وأن يتم تصميم تلك الآليات بمنطق بالغ الصرامة والقوة والحزم، منعا لأي تلاعب أو احتيال أو التفاف أو تهرب أو تدليس، وأن تأتي ثماره قوية ونافعة على الاقتصاد والمجتمع.
قد يرى البعض أن تراجع أسعار النفط، وكل ما يرتبط به من تحديات تنموية جسيمة هو الخطر الأول الذي يهدد الاقتصاد الوطني ومقدراته، إلا أنه من وجهة نظري المتواضعة؛ لا يصل أبدا حتى إلى 10 في المائة من الخطر الأكبر الذي يشكله تضخم أسعار الأراضي والعقارات، وهو ما أثبتته الإحصاءات الرسمية حول تعسر الحياة المعيشية للأفراد، وزيادة تكلفة الإنتاج والتشغيل على القطاع الخاص، وتحول الاقتصاد الوطني في (علاقته) مع مخزون الأراضي المجمدة عن الإحياء والانتفاع والتطوير، إلى علاقة بالغة الخطورة تهدد استقرار أي بلد كان حول العالم، قوامها ركيزتان:
(1) امتصاص الأراضي أغلب سيولة الاقتصاد، بحثا عن مخزنات لقيمتها الحالية، وتعظيما لقيمتها المستقبلية، على حساب تمويل مشاريع الإنتاج والتشغيل والتوظيف! ولك أن تتخيل وقوع الحالة الأكثر تطرفا هنا، أن تذهب كل سيولة الاقتصاد والأفراد للتخزين والمضاربة في أراض بيضاء، دون أي استثمار أو تمويل لأي نشاط اقتصادي آخر!
(2) انعكاس ذلك التركز للسيولة المحلية في أراض جرداء، وزيادة المضاربة عليها من قبل السيولة السريعة، بالتضخم العكسي على أسعار العقارات والإيجارات وتكلفة التشغيل والإنتاج، والدخول في حلقة مفرغة من زيادة الاحتكار والمضاربة من جهة، ثم زيادة التضخم من جهة أخرى، وعدم توقف دوران هذه الدوامة المفرغة إلا بحدوث كارثة اقتصادية ومالية. وللحديث بقية حول هذا الملف الذي اقتربت ساعاته الأخيرة، والمؤمل أن تأتي إيجابية -بإذن الله تعالى- مع ترقب صدور إعلان آليات الرسوم على الأراضي البيضاء. والله ولي التوفيق.