كثير من المهتمين بالشأن العام والاقتصاد من اقتصاديين ومهنيين ومستثمرين لديهم قناعة بأن استراتيجية شركة ماكنزي المتخصصة في الاستشارات تمثل ــ إذا صح التعبير ــ القالب الفكري والمنهجي لجزء مهم من “رؤية السعودية 2030″، وقد أسهب البعض في نقد تقرير ماكنزي مع إيضاح جوانب القوة والضعف في طرحه، لذا لن يركز هذا المقال على التقرير بشكل عام وإنما سيسلط الضوء على أحد أهم المواضيع الاجتماعية والاقتصادية التي ذكرت فيه، وهو موضوع الإسكان، الذي كان له نصيب جيد من تقرير ماكينزي ذي الـ 154 صفحة، تحت مسمى “المملكة العربية السعودية ما بعد النفط”، ولن يتسع المقام للتعليق على كل نقطة، لكن سأحاول استعراض وجهة نظرهم والتعليق على أهم النقاط.
تحدث التقرير على أن إحدى القنوات الأساسية للتحول الذي تنشده السعودية حتى 2030 هو الاستثمار العقاري سواء السكني أو التجاري، ومحاولة ضخ مزيد من الوحدات السكنية والمساحات التجارية خلال السنوات المقبلة سيكون له أثر جيد في الاقتصاد وتحسنه لأنه يخدم عديدا من المجالات المرتبطة به مثل مجال الإنشاءات والمقاولات، وكذلك القطاع المصرفي والتمويلي، كما أوضح التقرير أن مشكلة ارتفاع أسعار الوحدات السكنية، وضعف القدرة الشرائية هما المسببان الأساسيان لمشكلة الإسكان، كما أن تشجيع التطوير بتوفير الأراضي المخدومة بالبنية التحتية بأسعار مناسبة سيمثل خطوة مهمة لتشجيع الاستثمار بتطوير المنتجات السكنية، ولذا من المهم حل إشكالية الأراضي البيضاء داخل المدن ولا سيما المناطق المطورة عمرانيا، التي ستمثل حلا جيدا للمرحلة الراهنة، وذلك عن طريق فرض الرسوم عليها، وهنا أضيف أن سحب المنح ممن لم يطور أرضه الممنوحة يعد حلا مهما كذلك، بالإضافة إلى استغلال أراضي الجهات الحكومية المختلفة خاصة تلك التي في وسط المدن، سيمثل ثروة أراض يمكن استغلالها بالشراكة مع القطاع الخاص لضخ وحدات سكنية بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة، كما تطرق التقرير إلى أهمية وضع معايير جودة للتأكد من سلامة مشاريع التطوير السكني، وضبط سوق بناء المساكن عن طريق تصنيف الشركات والمؤسسات وتأهيل العاملين فيها، مع أن رفع مستوى الشفافية باستعراض عمليات التسجيل العقاري بشكل مفصل ودقيق، وكذلك وجود مؤشر أسعار للعقار السكني سيمثل خطوة مهمة نحو تطور سوق العقار.
وأشار التقرير إلى أن الفجوة في المعروض من الوحدات السكنية تسير جنبا إلى جنب مع إشكالات التمويل بشكل عام والتمويل العقاري بشكل خاص، حيث أوضح التقرير أن التمويل العقاري يصل إلى 75 في المائة من إجمالي عمليات التمويل للأفراد في بعض دول أوروبا وشرق آسيا، بينما يمثل 23 في المائة من إجمالي عمليات التمويل التجاري في السعودية، وأرجع التقرير هذا الانخفاض في حجم التمويل العقاري إلى ضعف القدرة الشرائية بسبب ارتفاع أسعار الوحدات السكنية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك ممارسة ملاحظة من عديد من المواطنين وهي الحصول على قرض شخصي لغرض شراء أرض سكنية أو ترميم المنزل، لأن نسبة الأرباح في القروض الشخصية أقل من العقارية، وهذا كله يدخل ضمن عمليات التمويل العقاري لكن بشكل غير مباشر، لذا من الجيد أن يتم تتبعها وأن تقوم مؤسسة النقد بالتعاون مع المصارف وجهات التمويل بمحاولة معرفة المغزى من القرض الشخصي حتى لا يتصور أن كلها تذهب لمنتجات استهلاكية غير مفيدة، مع الأخذ في الاعتبار تفضيل البعض الانتظار في قوائم صندوق التنمية العقارية للحصول على قرض لبناء الوحدة السكنية أو شرائها دون دفع أي هوامش ربح إضافية، وكذلك من أسباب ضعف جهات التمويل في توسيع نطاق التمويل العقاري، التأخر في تطبيق أنظمة الرهن العقاري بجميع تفاصيلها، مع أني أرى أن عدم تطبيق بعض منها منذ صدورها في عام 2012 أمر إيجابي لأنها ستزيد من ضخ السيولة في العقار السكني وبهذا تعزز من حدة الارتفاعات وتعطي مجالا أوسع لجهات التمويل بتحويل مخاطر التمويل إلى المستثمرين في صكوك الرهن العقاري. وبشكل عام لعل من الجيد البدء في نظام الرهن العقاري بجميع تفاصيله بعد أن تستقر سوق الإسكان وتخضع أسعار الوحدات والأراضي السكينة للتصحيح الذي يتوافق مع دخل المواطن السعودي الذي يرغب في التملك.
الخلاصة، التقرير أكد ما كان يطرحه كثير من المخلصين من مطورين واقتصاديين ومهنيين لحل هذه المشكلة الاجتماعية والاقتصادية، والحقيقة أنه بعد قرار تعديل البدلات وإعادة تنظيمها، فإن الرهان للتأكد من أن دخل الأسرة لن يتضرر بشكل كبير هو بحل أزمة السكن والتعجيل بالخطوات التي تضخ وحدات سكنية بأسعار تتناسب مع دخول أغلب المواطنين، حيث لا تستقطع أكثر من 30 في المائة من الدخل، وكذلك تنظيم سوق الإيجار بما يسهم في ضبط الارتفاعات لتخفيف وطأة الضغط على الأسر في الوقت الحالي، لأن في هذه الخطوات إزاحة لما يقدر بـ 20 إلى 30 في المائة من الالتزامات المالية التي تنهك مداخيل الأسر.