عندما نعلم أن دولة فقيرة بالموارد وكانت ذات اقتصاد ضعيف استطاعت أن تصل إلى نسبة تملك للمساكن تقدر بـ 90 في المائة بعد أن كان الأصل في مواطنيها السكن في مساكن شعبية ذات جودة رديئة، فهذا يعني أنها تجربة تستحق التأمل والتفصيل فيها، تلك هي تجربة سنغافورة، الدولة التي انتشلها المخلصون من قادتها من دولة متخلفة إلى مصاف الدول المتقدمة ذات المكانة المؤثرة في منطقتها في شرق آسيا مع صغر حجمها وانعدام مواردها.
ذكرت في مقال سابق تحت عنوان “الإسكان في سنغافورة .. وقصة نجاحه” وقد تم استعراض أهم المبادئ التي أرست قواعد النجاح وهي: قيادة واعية بأهمية المسكن لاستقرار المجتمع، وتوسيع قاعدة الدعم الحكومي، وجعلت تملك المسكن وسيلة للأمان المالي عند كبار السن، ورفع جودة المساكن وتحقيق استدامتها، وتوجيه دعم خاص للعائلات ولا سيما ذات الأعداد الكبيرة لتحفيز الزواج والإنجاب.
لكن ما الخطوات العملية المتبعة من قبل الحكومة لتحقق حلم تملك المسكن للأغلبية؟ وضحت الدراسة المنشورة من قسم السياسات العامة في جامعة سنغافورة الوطنية SNU أن تلك الخطوات بدأت بإصدار قانون نزع ملكية الأراضي لمصلحة مجلس التنمية والإسكان، حيث علمت الحكومة أن أول خطوة لحل مشكلة السكن هو توافر الأرض، فدون توافرها فإن أي حلول ستكون بلا طائل وكل الجهود المالية ومحاولات التمويل ستذهب إلى ثقب أسود يبتلعها وهي الأراضي التي ستتزايد قيمتها مع تطوير ما حولها لتكون عبئا على الحكومة ورغبتها الملحة في تحقيق برنامج تملك المساكن، لذا بدأت الحكومة السنغافورية بحل هذه المشكلة بتجميع الأراضي بعد أن فرط فيها المستعمر البريطاني، حيث تسلمت الحكومة السنغافورية بعد الاستقلال ثروة الأراضي ليتضح أنها تملك فقط 40 في المائة منها التي لا تفي بتحقيق رؤيتها في رفع نسبة التملك للمساكن على المدى القريب والبعيد كذلك، وبعد إصدار قانون الأراضي في عام 1966 ثم تدعيمه بصلاحيات أوسع في عام 1973 تتيح للحكومة نزع الملكية بقيمة أقل من القيمة السوقية وبطرق تعطيها الحق في التفاوض بشكل أقوى ووضع أصحاب الأراضي بموقف يحضهم على بيع أراضيهم للحكومة بمبالغ بسيطة، وبهذا وصلت نسبة ملكية الدولة للأراضي إلى 90 في المائة، وهنا استطاعت أن ترسم سياسات الإسكان الأخرى لأنها ضمنت الأساس الذي ستبني عليه مشاريعها ووفرت أحد أهم عناصر إنتاج المسكن وهو الأرض، فكانت الخطوة التالية هي إيجاد الأسلوب الأمثل لتمويل الراغبين في شراء المساكن، وجعل خطة تملك السكن جزءا من حياة المواطن السنغافوري عن طريق الادخار، حيث قامت الحكومة بإضافة برنامج الادخار للسكن ضمن برامج صندوق الادخار المركزي الذي يعتبر صندوقا للتقاعد في سنغافورة، حيث يسهم فيه كل من المواطن ورب العمل بنسبة متساوية حتى يتم جمع الدفعة المقدمة لتمويل السكن المدعوم الذي يقدم من مجلس التنمية والإسكان، ثم تستمر هذه المساهمة لتغطية أقساط التمويل الشهري، وبذلك يضمن الموظف أنه لن يصل إلى عمر التقاعد إلا وقد تملك مسكنا، وبعد النجاح الكبير للبرنامج في رفع نسبة التملك وتيسيره، قامت الحكومة بفتح المجال لإدخال الوحدات السكنية المطورة من القطاع الخاص ضمن الوحدات التي يمكن تمويلها بالطريقة نفسها ثم تأتي برامج أخرى تدعمه ماليا للاستفادة من الوحدة السكنية عند التقاعد، من الطرق التي حافظ بها مجلس التنمية والإسكان على نسب تملك عالية خلال بداياته هو منع بيع الوحدات السكنية المدعومة في السوق بحيث لا يستطيع بيعها إلا للمجلس وبسعر التكلفة التي تملكها به، وفي عام 1971 قام المجلس بإتاحة المجال لبيع الوحدات المدعومة في السوق بالقيمة السوقية لكن بعد قضاء مدة معينة فيها كحد أدنى، وفي عام 1991 وبعد ارتفاع نسبة التملك إلى 88 في المائة، تم تخفيف الكثير من القيود على عملية بيع الوحدات المدعومة من مجلس التنمية والإسكان، كما اتبع المجلس سياسة جيدة في بداية الأمر وهي ضخ الوحدات السكنية بأقصى طاقة وأكبر عدد في السوق حتى ارتفعت نسبة التملك، ثم اتبعت سياسة جديدة وهي البناء حسب حجم الطلب، وهو نموذج مشابه للبيع على الخريطة، حيث يتم حجز الوحدة السكنية ثم بناؤها خلال أربع سنوات.
الخلاصة، الدروس المستفادة من التجربة السنغافورية لحل مشكلة السكن تبدأ باسترجاع الأراضي بقوة النظام، وما يجب أن يحصل عندنا هو استرجاع ما تم منحه وكذلك الضغط برسوم الأراضي بشدة على من يملك حاليا ولا يرغب في التطوير، ثم الانتقال إلى حلول التمويل والادخار للمسكن عن طريق برامج تحفيزية تنظمها الحكومة ويشارك فيها المواطن ورب العمل، وكذلك متابعة سوق الإسكان وتحركاته وتحديث أنظمته وتشريعاته للتوافق مع الأوضاع أولا بأول، وأخيرا تحفيز الاستثمار الحكومي مثل صندوق الاستثمارات العامة وكذلك المطورين من القطاع الخاص لضخ الوحدات السكنية بأقصى طاقة وتيسير الإجراءات وتخفيف تكاليف الأرض ومواد البناء والعمالة لإنتاج وحدات سكنية بأسعار تتوافق مع مداخيل الأغلبية من المواطنين الراغبين في التملك.