للأوقاف الخيرية مكانة عظيمة في ديننا الإسلامي، وتتجلى أهميتها في الحث عليها والتأكيد على العناية بها على جميع المستويات، ولا شك أن العناية الرسمية من قبل الحكومات، خاصة التي تحكم المجتمعات المسلمة، لها أثر مهم في دعم قطاع الأوقاف الخيرية وجعلها رافدا مهما من روافد التنمية الاجتماعية؛ لما لها من مساهمة مباشرة في الحد من الآثار الخطيرة للفقر والحاجة وكذلك دعم المبادرات والبرامج الخيرية التي تعزز القيم في المجتمعات المسلمة وتجعلها أكثر تمسكا وحفاظا على هويتها الإسلامية، ولعل من المستجدات في مجال الأوقاف خاصة الأوقاف العقارية التي تعتبر رافدا استثماريا أساسيا لكثير من المؤسسات الوقفية، هو ما تم تداوله في وسائل الإعلام من رفض وزارة الإسكان لطلب اللجنة الوطنية للأوقاف بمجلس الغرف السعودية استثناء تطبيق برنامج رسوم الأراضي البيضاء على أراضي الأوقاف والمؤسسات والجمعيات الأهلية غير الهادفة للربح، ولن أتطرق للجانب الشرعي في فرض الرسوم على أراضي الأوقاف الخيرية، فأهل الاختصاص الشرعي هم من يستطيعون البت في ذلك، لكن سأركز على الجوانب التنظيمية والإدارية، وأولها بل أهمها هي البيئة التنظيمية للأوقاف العقارية وطريقة تعاطي الجهات الرسمية معها، وثانيها أسلوب إدارة الاستثمارات العقارية الوقفية داخل المؤسسات وكيف يمكن تطويرها.
في البداية لا بد من التفريق بين الأوقاف العقارية الريعية التي يكون ريعها للورثة أو لمن يحدده صاحب الوقف وليس شرطا أن يكون من الفقراء أو المعوزين، بل قد يكون غنيا ومقتدرا ماليا، أما الأوقاف الخيرية وهي محور الحديث، التي أوقفت لوجه الله تعالى لتصرف عوائدها في مجالات البر والإحسان، وهذه ما يهمنا أمرها في الدرجة الأولى لأنها في الأصل مخصصة لتنمية المجتمع وسد حاجاته، أما فيما يتعلق بالبيئة التنظيمية فلا شك أن مؤسسات الأوقاف بشكل عام والأوقاف العقارية بالذات تعاني ضعف الكفاءة في الإجراءات الحكومية، خاصة المتعلقة بوزارة العدل، وهذا بلا شك يعطل إمكانية تطويرها وتبني الوسائل الاستثمارية المبتكرة لضمان تطويرها وفق أعلى وأفضل استخدام، وهنا تبرز أهمية دور الجهات التنظيمية والوزارات المعنية بمساعدة القائمين على الأوقاف العقارية بتسهيل الإجراءات وتيسيرها حتى يحفز القائمين على الوقف بتنميته وتطويره بما يحقق المنفعة الكبرى اجتماعيا؛ وذلك بتحويلها إلى أصل نافع بدلا من أن تكون أرضا بيضاء لا عائد منها سوى نمو قيمتها التي قد تتعرض للتذبذب أكثر من العقارات المطورة ذات الدخل الدوري، وكذلك تحقيق المصلحة من الوقف من خلال الانتفاع من العوائد الدورية التي ستحقق استدامة للمصارف المحددة للوقف وفي الوقت نفسه يحصل نمو أكثر استقرارا في قيمة الأصل على المدى البعيد.
أما من حيث الإدارة الاستثمارية لعقارات الأوقاف فهي بلا شك في حاجة إلى إعادة هيكلة وتطوير ورفع مستوى الوعي لدى مجالس إدارة الأوقاف في مجال الاستثمار العقاري وإشراك المتخصصين في مجالس إدارة الأوقاف، وذلك لإيجاد الوسائل الاستثمارية الملائمة لأراضي الأوقاف بدلا من التعرض لمثل هذه المخاطر التنظيمية المتمثلة في رسوم الأراضي، وهنا تبرز إشكالية عدم توافر السيولة لدى بعض الجهات الوقفية وكيفية إيجاد نموذج استثماري يضمن بقاء الأرض في حيازة الوقف مع الانتفاع به وتطويره، وهذه النماذج موجودة وأحدها نظام البناء ثم التشغيل ثم التحويل BOT وغيرها من الأساليب التي تحتاج إلى متخصصين وإدارة احترافية لهيكلتها بشكل كفؤ دون أن تبذل الأوقاف أي موارد مالية، بل ستجني العوائد الدورية من خلالها.
الخلاصة، أؤكد أن الأصل في الأرض البيضاء تطويرها وفقا لأفضل وأعلى استخدام كما هو متعارف عليه في بدهيات الاستثمار العقاري، وأن تعطيل تطوير الأراضي وكنزها له أضرار تنموية واقتصادية ليست بالهيّنة، ولذلك ليس من المستساغ أن تقوم الأوقاف الخيرية بالإحسان وتنمية المجتمع من جهة وتلحق به الضرر من جهة أخرى، وعلى هذا الأساس فهي لا تحتاج إلى الإعفاء من رسوم الأراضي بقدر حاجتها إلى أنظمة حكومية وبيئة فاعلة تدعم تسهيل الإجراءات وضمان عدم تعطيلها، وكذلك إدارة احترافية للاستثمار العقاري لديها الإمكانات والوسائل المثلى لتحقيق المنفعة من الأراضي الوقفية وتعزيز عوائدها الاستثمارية بطرق تتناسب مع طبيعتها ووظيفتها كأصل وقفي، ولعل البعض يجد أن هناك ضررا في قرار عدم استثناء الأراضي الوقفية، لكني أرى في طياته الخير لهذا القطاع المهم على المدى البعيد، وقد يكون أحد أسباب تفاعل الجهات التنظيمية المختلفة مع الجهات الوقفية لحل الإشكالات المتعلقة بالإجراءات وتسهيل أعمال الأراضي الوقفية، بل إعطاء الأولوية لها لتتمكن من التطوير وتتفادى دفع أي رسوم، وهذا ما نتوقعه من الجهات الرسمية المختلفة خلال الفترة القريبة المقبلة، ولعل هذا القرار يعطي دافعا للقائمين على الأوقاف بمراجعة استراتيجية محفظتهم العقارية وجعلها أكثر كفاءة وتنشيطها بما يحقق أعلى العوائد للمجتمع وللأغراض الخيرية التي خصّصت لها.