نستطيع أن نختلف كثيرا حول توجه سوق العقار السكني خلال الفترة المقبلة، وستجد كثيرا من الآراء حول هذا الموضوع من المتخصص وغير المتخصص، لكن ما لا يختلف عليه المهني والمحايد في سوق العقار السكني أن النتيجة المطلوبة لهذه السوق أن تصل إلى مرحلة استقرار، ويعني هذا أن تدفعها محركات الطلب السليمة التي تعتمد في الدرجة الأولى على معدل دخل الأغلبية من الراغبين في التملك، وبلا شك استقرار سوق المساكن كان وما زال هاجسا يعانيه كثير من الدول حول العالم، والسعودية ليست استثناء، لذلك السؤال المهم قبل إطلاق الأحكام على توجه الأسعار مستقبلا هو، هل وضع السوق وأسعارها الحالية يدلان على سوق مستقرة ومستدامة وصحية وقابلة للاستمرار وتحقيق الغرض الأساسي منها، وهو توفير وحدات سكنية تتناسب مع دخل الأغلبية الراغبة في التملك.
الإجابة يمكن اختصارها في مؤشر وزارة الإسكان في برنامج التحول الوطني الذي عبرت عنه بمكرر متوّسط سعر الوحدة السكنية إلى إجمالي دخل الفرد السنوي، الذي يعرف عالميا بمؤشر القدرة على التملك في منطقة معينة، حيث ذكرت “الإسكان” أن خط الأساس للمؤشر هو 10 وتطمح أن تصل به إلى 5، والمعيار الإقليمي 6.7 وعند القياس لا بد من الأخذ في الاعتبار أن هناك انفتاحا أكبر على تملك الأجانب في معظم الدول المجاورة، بينما السعودية لديها نظام متحفظ لتملك العقارات للأجانب، وهذا يعني أن الطلب من المواطنين هو المؤثر، كذلك نجد أن المعيار العالمي للمؤشر هو 3، وللمعلومية فإن وصول المؤشر إلى أعلى من 5 في المقاييس العالمية يعني أن المنطقة شبه مستحيل التملك فيها لمن يقطنها من أصحاب الدخل المتوسط، وذلك يعني أن هناك خللا في تلك السوق يحتاج إلى علاج، أو أن هناك ميزة خاصة لتلك السوق، مثلا أن تكون مركزا تجاريا عالميا ومنطقة استثمارية مرغوبة لكل المستثمرين، ومن هذه المدن مثلا لندن ونيويورك وهونج كونج وغيرها من الأمثلة التي توضح أن الحاصل في هذه المدن هو وضع شاذ، والشاذ لا يقاس عليه، لذلك لا يعقل أن يصل المؤشر لدينا إلى مستوى هذه المدن ذات الوضع الخاص، إلا أنه قد يكون من المقبول أن منطقتي الحرمين المكي والنبوي خاصة المناطق المركزية يحصل فيهما مثل ما يحصل للمدن العالمية، لما لهما من مكانة خاصة عند المسلمين على مستوى العالم ولمستوى أمانهما الاستثماري العالي وطبيعة سوقهما وحجم الطلب عليهما مقارنة ببقية المدن.
لذلك نحن في حاجة إلى سياسات إسكان حديثة وتوجيه الدعم من قبل المنظم لإعادة التوازن للسوق، وتنظيم العلاقة بين أطراف السوق العقارية، وهي المستثمر الذي يضخ رأسماله في السوق، والمطور الذي ينتج المنتجات السكنية باختلاف أنواعها، والمستخدم النهائي وهو الراغب في التملك، ويعتبر الهدف الأساسي للمطور والمستثمر، لأنه من سيقوم بشراء المنتجات العقارية وجعل العجلة تدور ليحصل المستثمر على العوائد، ويقوم المطور بضخ منتجات أخرى من المساكن لمستخدمين آخرين، وحتى يسود الاستقرار سوق العقار السكني، على الجهات الحكومية أن تقوم بواجبها أولا حتى تدفع السوق نحو الاستدامة قدر الإمكان، ويتلخص دور الحكومة في ثلاثة محاور رئيسة هي: أولا، وجود الأنظمة والتشريعات وضمان تطبيقها على الجميع، وتتلخص في تحديث الأنظمة المتعلقة بالإسكان وتطويرها باستمرار وحفظ حقوق الملكية بضبط ثروة الأراضي والعقارات والتخلص من الصكوك المشبوهة التي أضرت السوق كثيرا، وكذلك ضمان حق التقاضي ليسود العدل وتمضي أحكامه على الجميع، ثانيا العدالة في توزيع الثروة، وهذا يعني إتاحة الفرص للجميع دون تميز للتمكن من المنافسة في السوق وتوجيه الدعم وفقا لمعيار الإبداع والإنتاجية بلا تفضيل، ولعل ضعف العدالة في توزيع ثروة الأراضي والاحتكار والتشوهات التي صاحبتها أدت إلى الآثار الوخيمة التي نعيشها اليوم، ومثل نظام رسوم الأراضي قد يسهم في تعديل المسار، لكن ما زلنا في حاجة إلى توجيه الدعم بشكل أكبر للمطورين المنتجين ورعاية من لديه أفكار أو ابتكارات في مجال بناء المساكن تسهم في تخفيف التكاليف المتعلقة بها، وثالث الأدوار هو متابعة السوق وتقويم تشوهاتها، وهنا يبرز التفاعل المباشر من خلال المتابعة اللصيقة لمؤشرات واضحة ومعلومات دقيقة نفتقدها في سوق العقار بشكل عام والسكني بشكل خاص، فلا وجود مثلا لمؤشرات سعرية للمساكن بمختلف أنواعها وتفاصيلها لتساعد المواطن العادي والمستثمر والمسؤول على اتخاذ قراراه، كما لم تتضح حتى الآن تفاصيل عناصر مؤشر القدرة على التملك، وما مواصفات متوسط سعر المسكن وما متوسط دخل الفرد، حتى يتم قياسها بشكل دوري، واتخاذ الخطوات العملية لضمان استقرار السوق من خلالها، وتحقيق الهدف المنشود في 2020 أن تصل إلى 5.
الخلاصة، أن هناك مشاريع إسكان متعثرة ونسب إنجاز ضعيفة جدا، توضح أن كل خطوة مقبلة لا بد أن تكون مدروسة بعناية، فلا مجال للتجارب بعد اليوم، إذا أردنا للسوق أن تستقر.