استعرضت في المقال الأخير “حينما انهارت أسعار الأراضي والعقارات”، تجربة حقيقية مرت بها السوق العقارية المحلية خلال الفترة 1982-1989، أكدت بياناتها الرسمية الانخفاض الكبير في أسعارها السوقية بنسبة فاقت في المتوسط 50.0 في المائة، بعد موجة ارتفاع هائلة لأسعار الأراضي والعقارات خلال أقل من أربعة أعوام فقط 1973-1977، فاقت نسبة ارتفاعها 352.0 في المائة!
ثم دخول السوق العقارية مرحلة زمنية طويلة جدا من الركود امتدت إلى نحو 17 عاما، أي من عام 1989 حتى منتصف عام 2006، أفضت إلى استقرار الأسعار السوقية للأراضي والعقارات، وبقائها في مستويات متدنية وعادلة، متأثرة آنذاك بعدد من العوامل الاقتصادية والمالية، لعل من أبرزها الانخفاضات الشديدة التي لحقت بأسعار النفط، وتحجيمه ذلك أدى بدوره إلى ارتفاع الإنفاق الحكومي وتحديدا الجانب الرأسمالي منه، واضطرار المالية الحكومية طوال تلك الفترة إلى تمويل عجزها المالي عبر إصدار سندات التنمية، مارست من خلاله مزاحمة قوية لا تُنافس من قبل القطاع الخاص على الائتمان المحلي، وهذا بدوره أثر كثيرا في نمو القطاع الخاص والاقتصاد على وجه العموم.
وكما سبق إيضاحه في أكثر من مقال سابق، اختلفت كثيرا صورة السوق العقارية تماما بعد انهيار السوق المالية نهاية شباط (فبراير) 2006، بتوجه أغلب السيولة المحلية نحو المتاجرة في الأراضي والعقارات، وتزامنه مع ارتفاع أسعار النفط بأكثر من 112 في المائة، وتضاعف حجم الإنفاق الحكومي السنوي بنحو ثلاث مرات، ليصل إجمالي الإنفاق خلال 2006 ـــ 2014 إلى أعلى من 6.4 تريليون ريال، شكل الإنفاق الرأسمالي منه نحو 30.0 في المائة (1.9 تريليون ريال)، ومع ضيق قنوات الاستثمار المحلية، وتحت ظل تشوهات السوق العقارية من تفاقم احتكار الأراضي داخل المدن، وارتفاع وتيرة المضاربة وتدوير الأموال على ما لا يتجاوز 10.0 في المائة منها كمساحات متاحة للبيع والشراء، مقابل زيادة احتياجات المجتمع للإسكان، كان لا بد أن تتشكل الفقاعة السعرية العقارية الراهنة.
في الوقت الراهن، يواجه الاقتصاد الوطني بصورة عامة، والسوق العقارية على وجه التحديد طريقا آخر مختلفا تماما عن الفترة 2006 ـــ 2014، فمنذ منتصف 2014 بدأت أسعار النفط في التراجع الكبير بنسبة بلغت 60.0 في المائة، نتج عنه عجز مالي (2.3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي)، ويتوقع ارتفاعه مع نهاية العام الجاري إلى نحو 20.0 في المائة من إجمالي الناتج، وعودة المالية الحكومية إلى تمويل أكبر جزء منه عبر إصدار سندات التنمية، وكما تظهر التقديرات الدولية (صندوق النقد الدولي)، أن أسعار النفط قد تبقى طويلا تحت ضغوط ضعف نمو الاقتصاد العالمي، وخاضعة أيضا لزيادة الإنتاج العالمي منه مقابل الطلب، ما سيجعل الأسعار متأرجحة بين 30 إلى 50 دولارا أمريكيا لعدة سنوات مقبلة، وهذا سيترك دون شك آثاره في الاقتصاد السعودي وغيره من الاقتصادات المنتجة للنفط، وكما سبق إيضاحه فإن هذا السيناريو كما أنه يحمل تحديات إضافية على كاهل الاقتصاد، فإنه يحمل فرصا مواتية له، شرط أن يستمر في إجراء كثير من الإصلاحات التي بدأها خلال الأعوام الأخيرة.
أصل الآن إلى ما يهم هنا الباحث عن سكن، علما أنه كان لا بد من إيجاز المقدمة أعلاه للفهم الجيد لما سيأتي من حديث، وليكون القارئ الكريم على اطلاع تام بالصورة الشاملة، فلكل ما يجري على السطح الاقتصادي مقدمات أو عوامل مؤثرة، تتحكم في الغالب في اتجاهات ما سيأتي خلفها، وهنا يتضح المسار حول التأثير الكبير الذي تلعبه أسعار النفط في اقتصاد تزداد درجة اعتماده بصورة كبيرة (يشكل نحو 90.0 في المائة من الإيرادات الحكومية، ونحو 42.0 في المائة من إجمالي الناتج المحلي)، والانعكاس المتوقع لآثار انخفاض أسعاره العالمية على كل من الميزانية والاقتصاد، وما سيترتب عليه من قيام المالية الحكومية بتمويل عجزها المالي عبر العودة إلى إصدار سندات التنمية، إضافة إلى تعزيز جانب إيراداتها الأخرى غير النفطية، ولعل أفضل الخيارات المتاحة الآن هو المضي قدما في تطبيق قرار مجلس الوزراء بفرض الرسوم على الأراضي البيضاء “صدر نهاية آذار (مارس) 2015″، الذي لن تقف فوائده عند تعزيز إيرادات المالية الحكومية فقط، بل سيتجاوزها إلى كبح جماح أحد أكبر مصادر التضخم محليا، لخفض الأسعار المتضخمة جدا للأراضي والعقارات، وانتقال أثره إلى خفض تكلفة إيجارات المساكن وبقية العقارات التجارية والصناعية، تنتهي آثاره الإيجابية عند إعادة الأسعار إلى مستوياتها العادلة، التي تتناسب مع دخل الأفراد، وفي الوقت ذاته تخفض تكلفة الإنتاج والإيجارات على منشآت القطاع الخاص تجاريا وصناعيا وخدماتيا، ما سيؤدي في مجمله إلى تحقيق تحسن كبير على معيشة أفراده، ويحفز نمو منشآت القطاع الخاص، ويسهم كذلك في إعادة توجيه الثروات والسيولة المحلية نحو الاستثمار المجدي، ودخولها في قنوات الإنتاج والتشغيل ورفع مستويات إنتاجية الاقتصاد الوطني، الذي سيؤدي إلى إيجاد مزيد من فرص العمل الكريمة أمام المواطنين، ويعزز بصورة أكبر من استقرار ونمو الاقتصاد الوطني، بما يعوض كثيرا من انخفاض أسعار النفط.
ما النتيجة المراد وضعها أمام الباحث عن مسكن من كل ما تقدم ذكره؟ أن الأسعار المتضخمة جدا للأراضي والمساكن التي منعته تماما من تملك مسكن العمر، وتسببت في شل قدرته من حيث الدخل والاقتراض على الشراء، مصيرها إلى الزوال -بمشيئة الله تعالى- حيث تواجه تلك الأسعار المتضخمة مستقبلا يتحدث عن توقع انخفاضها بما لا يقل عن 50.0 في المائة خلال الفترة القريبة المقبلة، وقد تزيد تلك النسبة في عديد من المواقع المتضخمة سعريا بصورة أكبر من غيرها!
الحديث هنا يتركز بنسبة 100 في المائة على من سيضطر إلى الاقتراض من مؤسسات التمويل، كونه الطرف الذي إن اقترض في الوقت الراهن بالمستويات السعرية المتضخمة الراهنة، فلن يستفيد على الإطلاق من أي انخفاضات لأسعار الأراضي والعقارات، كونه سيدخل في عقد تمويلي لن يلتفت إطلاقا إلى انخفاض العقار الممول، ويحمل هذا فارقا كبيرا جدا بالنسبة إلى المقترض، فحينما يشتري عقارا على سبيل المثال قيمته السوقية اليوم 1.5 مليون ريال (دفع مقدم 30 في المائة)، فهذا يعني بمعدلات فائدة عند 3.0 في المائة سنويا لمدة 20 عاما، أنه سيدفع شهريا أقساطا لن تقل عن سبعة آلاف ريال وقد تزيد، وهو ما يختلف تماما عند انخفاض السعر السابق إلى نصف قيمته، فحتى مع تضاعف معدل الفائدة كما هو متوقع، إلا أنه وبنفس شروط التمويل سيتحمل أقساطا شهرية أقل من السابقة بما لا يقل عن 40.0 في المائة وقد تزيد!
إذا والحال تلك؛ القرار الأمثل اليوم بالنسبة إلى الباحث عن سكن أن يتجنب تماما التورط في شراء أي عقارات عن طريق التمويل والاقتراض، خاصة أن التجارب السابقة للسوق العقارية 1982 ـــ 1989، والمؤشرات الاقتصادية الراهنة تثبت له أفضلية هذا القرار، وبكل تأكيد فإن القرار أولا وآخرا يعود إليه، وما يقدمه الكاتب هنا لا يتعدى تقديم النصيحة والمشورة غير الملزمة له، وأنها في الأصل من الكاتب تسعى إلى تحقيق مصلحته والمحافظة عليها، وللاستفادة من التطورات المقبلة وتوظيفها لصالحه. والله ولي التوفيق.