
حاول شاب في مقتبل حياته المهنية الواعدة جمع مبلغ كاف يساعده في الحصول على التمويل العقاري وأتخذ قرار شراء منزل العمر. استدان واستخدم ما جمعه في السنوات القليلة الماضية، وفي النهاية لم يتمكن من جمع المبلغ المطلوب أو ما يعادل 30 في المائة من قيمة العقار الذي يستهدف شراءه. يشرح له أحد أصدقائه المقربين كيف أن النسبة مجحفة في حقه كمستهلك بسيط يحرص على تأمين مستقبله. وبعد فترة يعود إليه الصديق نفسه ويبشره بقرار رسوم الأراضي الذي اتسم بكونه الخطوة الأكثر جدية في تحرير السوق المحتكر وينصحه: انتظر، نزول الأسعار قادم وربما تتمكن من جمع المزيد من السيولة وستصبح العقارات حينها أقرب إلى متناول يدك بعد نزول أسعارها، ستمتلك أكثر من 30 في المائة، وربما تتمكن من استثمار ما يفيض من أموالك. بالطبع، يصبح السؤال المسيطر على تفكيره: أوقع أم أنتظر؟!
أصعب القرارات الشخصية تلك التي تنحشر بين التردد والغموض، خصوصا حين تكثر التفسيرات والتكهنات المتناقضة. هذا ما يحصل حاليا بين مبشر بتصحيح أوضاع السوق العقارية وبين يائس من تأثرها بالمتغيرات الاقتصادية والتنظيمية المتعددة. وعلى الرغم من أن الأوضاع تكاد تكون واضحة للبعض – حسب ما يدعونه – إلا أن وقعها على المواطن الشاب لا يكون بالقدر نفسه من الوضوح، وفي معظم الحالات يصبح هذا القرار أصعب من ذي قبل. وهذا أمر مهم يستدعى التوقف وخصوصا أن المؤشرات الإيجابية والتصحيحية في تتابع مستمر، ولكن التأثيرات في المستهلك ليست بالسرعة ذاتها وتتطلب وقتا أطول لتنعكس كما يتوقعها الكثيرون.
ثلاثي مهم تدور حوله قضية المسكن، صانع القرار وصانع السوق والمستهلك، ولكل منهم مسؤولية معتبرة، تزيد عند الأول والثاني ويتحمل نتيجتها الأخير. ولأن الدوافع تختلف، فالمنتظر من صانع القرار أعظم مما نتوقعه من التاجر الذي يدفع بزيادة مكاسبه بكل الفرص المتاحة، تلك التي تسمح بها أخلاقياته ويتيحه له النظام. صانع القرار في الجانب الآخر ييسر ويحفز ويرعى بحزم توجيه عناصر السوق لتصبح داعمة للتنمية وعادلة للجميع، ولكن هذا ليس بالأمر السهل.
من الملاحظ أن جزءا كبيرا من التواصل المعلن يحصل بين فئات محددة تنحصر في معظم الحالات بين الجهات الرسمية والمطورين العقاريين، وربما في حالات أقل بين بعض الفئات الأخرى. وهذا ما يجعل المستهلك ـــ وهو الطرف الأهم المستهدف من معظم التغييرات التنظيمية الأخيرة ـــ بعيدا عن مستوى الوعي المطلوب الذي يمكنه من اتخاذ قراره بطريقة صحيحة. تبادل المعلومات والإفصاح وحتى دوائر التأثير تشمل المتنفذين وصانعي السوق وتدعم تفاعلهم، وليس هناك من يمثل المستهلك بطريقة نظامية. وبالطبع تسهم أسباب أخرى في هذه الحالة مثل التأخر في الإجراءات التشريعية والقدرة على تطبيق القرارات بشمولية وفاعلية. تطرح لنا هذه المسألة سؤالا مهما حول استقلالية الجهات التنظيمية عن الأطراف الذين تقوم بخدمتهم، وقدرتها على ضبط علاقاتها، ووقوفها على الحياد أو التحيز عندما تتطلب العدالة ذلك.
تؤثر الثقافة المالية الشخصية في قدرتنا على اتخاذ القرارات الحياتية المالية المهمة. ولا يقتصر الموضوع على العناصر الشخصية ـــ الداخلية ــــ للثقافة المالية، بل تؤثر العناصر الخارجية ومنها توافر المعلومات السليمة في قدرات أي منا على اتخاذ القرارات. وهذا يوضح لنا بجلاء مسؤولية وزارة الإسكان مثلا في الإفصاح المستمر والواضح والمنتظم عن أسعار السلع التي تديرها ومستجدات تحركاتها وخططها.
تزيد تعقيدات الواقع من هذه المشكلة وتزيد ضبابية الخطوات القادمة منها، قرارات الإيجار أو شراء الأرض والانتظار أو الحصول على مسكن بالتمويل تتجسد بشكل صعب لمتخذ القرار. وبالتأكيد، غياب المنظور الزمني الواضح لكثير من الأفكار والخطط المطروحة يجعلها أقرب إلى الأحلام ويزيد من حالة الغموض. إضافة إلى ذلك، لا يكفي خروج الحلول الممتازة لنجاحها، فطرحها بالشكل المناسب وترويجها يغير كثيرا من فرص نجاحها. حتى عندما تغيب أو تتأخر هذه الحلول تتطلب المسألة قدرا من التوعية والتواصل، فالغموض لا ينفع المستهلك في أي حال من الأحوال. وهذا أمر مهم، حين تغيب الخطوة المؤثرة وتكون الحالة أقرب إلى الانتظار الجماعي، من الضروري أن تخرج بعض المحفزات التذكيرية التي تقول للشخص، انتظر أو وقع.. أو ربما تقول له، ابحث عمن تشاركه أو ادخر لبعض الوقت.