أنا الآن في القاهرة منذ أسبوع، وقد سبق لي زيارتها عشرات المرات، ولكنها المرة الأولى التي أحرص خلال حضوري فيها على زيارة عدد من (المدن) الجديدة المقامة على ضواحيها وأطرافها، والحقيقة فقد ذهلت من المستوى العمراني والحضاري المتطور لمعظم تلك المدن والضواحي المحيطة بمدينة القاهرة القديمة، ولعل من أهم وأحدث تلك المدن (مدينة) التجمع الخامس التي تعتبر نموذجاً مبهراً ومتفوقاً للتطور العمراني؛ لم أتوقع على الإطلاق إمكانية تنفيذه في مصر؛ خصوصاً وهي تعاني من ضغوط اقتصادية متعددة منذ عقود، وفي تقديري فإن التجمع الخامس هو تجسيد رائع للإرادة الحكومية عندما تقرر التصدي – بجدية – للمشكلات والتحديات، وتبادر لتحفيز القطاع الخاص لكي يقوم بدوره المنتظر في التنمية بدلاً عن أن يكون مجرد كائن طفيلي يقتات على الإنفاق الحكومي!
وقد لا أكون مبالغاً لو اعتبرت أن (التجمع الخامس) وغيره العديد من المدن المصرية الجديدة المحيطة بمدينة القاهرة (مثل الشيخ زايد و٦ أكتوبر ومدينة الشروق ومدينتي والرحاب) أصبحت اليوم تضاهي نموذج دبي المبهر أو حتى النماذج الأوروبية والأمريكية للمدن الجديدة؛ سواء من حيث التخطيط والمساحات، أو من حيث الحداثة والتنفيذ والاستخدامات؛ يحدث ذلك في مصر رغم الفارق الكبير في الإمكانات المالية لصالح دبي بالطبع، كما تمثل المدن المصرية الجديدة نقلة حضارية كبيرة في مصر عموماً وفي القاهرة على وجه الخصوص التي عانت خلال العقود الثلاثة الماضية من تحديات كبرى كان من المستحيل تجاوزها بدون تنفيذ مبادرات جريئة تنتشلها من أزماتها وتحدياتها التي جعلت العيش فيها أمراً في غاية الصعوبة
وقد أمضيت في التجمع الخامس ليلة استثنائية بكل المقاييس، اطلعت فيها عن قرب على نموذج عمراني رائع؛ أتمنى لو تبادر أمانات مدننا الكبرى على تنفيذ مثله، بدلا عن التوسع العشوائي الذي يغلب على الكثير من الأحياء الجديدة في مدننا، ولا سيما أن بعض أحيائنا تفتقر لعدد من الخدمات الأساسية، كما يؤخذ على معظم المشاريع المشابهة في مدننا ارتفاع أسعار الوحدات السكنية فيها ومحدودية مساحاتها، وسوء تنفيذها وتشطيبها وافتقارها لهوية معمارية موحدة.
والمؤكد هو أن (التجمع الخامس) وغيره من الضواحي والمدن المصرية الجديدة التي أصبحت تحيط بالقاهرة هي شاهد عملي على نجاح الحكومات المصرية المتعاقبة خلال 30 عاماً الماضية على التعامل (المُبكِّر) مع عدد من التحديات الرئيسية، وفي مقدمتها الاختناقات المرورية التي تعاني منها القاهرة القديمة، إضافة لنقص المساكن والمساحات المكتبية، ومحدودية الجامعات والمدارس المكتظة بالطلاب، لذلك يمكنني القول إن المدن الجديدة في القاهرة هي تجسيد حقيقي لمستقبلها المشرق؛ بعد أن ضاقت المدينة القديمة بأهلها وزوارها خلال العقود القليلة الماضية، رغم كل المحاولات المستمرة للجهات المصرية المعنية، لتخفيف الازدحام وتحسين مستوى البنية التحتية والحد من نسبة التلوث العالية، خصوصا أن عدد سكان المدينة يتجاوز الـ ١٠ ملايين نسمة؛ ويزيدون بضعة ملايين أخرى خلال ساعات العمل الرسمية.
وبالعودة للتجمع الخامس الذي يعتبر أحدث المشاريع العمرانية الجديدة في القاهرة، فإن المشروع حديث نسبياً حيث لا يتجاوز عمره ١٦ عاما، حيث بدأ العمل فيه عام ٢٠٠٠، بعد أن قامت الحكومة المصرية بتوفير البنية الأساسية من ماء وكهرباء وطرق داخلية وسفلتة وترصيف وتشجير وصرف صحي وبنية اتصالات رقمية حديثة، قبل أن تطرح الأراضي للبيع على الأفراد والمستثمرين بأسعار معقولة، وهو ما شجع المطورين العقاريين على الاستثمار في الموقع وتسويق المنتجات السكنية والمكتبية والتعليمية بمساحات وأسعار في متناول مختلف شرائح المجتمع المصري.
ويقع مشروع التجمع الخامس شرق القاهرة القديمة على بعد نحو ٢٥ كلم من ميدان التحرير بوسط القاهرة، والملفت فيه هو مساحته الكبيرة التي تبلغ حوالى ٣٠٠ كيلو متر مربع وهي مساحة تعادل ثُلثي مساحة القاهرة الكبرى البالغة نحو ٤٥٠ كلم٢، كما أن من أبرز ما يميز مشروع التجمع الخامس وغيره من المدن الجديدة في مصر هو أنها تضم كافة الخدمات والمرافق العامة كما تربطها بالقاهرة طرق سريعة ومضاءة، تتميز باتساعها حيث يضم كل اتجاه ٥ مسارات، كما تتميز تلك المدن باكتفائها الذاتي بجميع الخدمات ومتطلبات الحياة الكمالية، ناهيك عن الضرورية حيث تنتشر فيها الجامعات والمدارس الخاصة إضافة لدور السينما والمولات والكافيهات والمحلات التجارية التي تعرض المنتجات من كافة الماركات والأصناف؛ أي أن من يسكن فيها لا يحتاج إطلاقاً لمراجعة القاهرة القديمة للحصول على مختلف الاحتياجات.
ختاماً، أرجو أن تبادر الجهات المعنية في المملكة وفي مقدمتها وزارات الشؤون البلدية والقروية، الإسكان، والصحة، والنقل، وأمانات المدن، وشركتا المياه والكهرباء، للاستفادة من تجربة مدينة القاهرة في تخطيط وتنفيذ احتياجات مدننا من الأحياء الجديدة المتكاملة الخدمات، وربما تكفي زيارة سريعة يقوم بها مسؤولو تلك الجهات للقاهرة، كي يشاهدوا بأنفسهم ما يمكن أن تصنعه الإرادة والعزيمة.