
كثیرة ھي المشاكل المالیة والاقتصادیة المزمنة التي استأنسناھا وتعایشنا معھا طوال الحقبة الماضیة وكأنھا قدر مكتوب، ومن بینھا غیاب التمویل المصرفي الذي خلف فجوة مالیة مسكوتا عنھا، وخلق مصاعب جمة لكل القطاعات في البلاد، بما في ذلك الإسكان وردیفھ العقار والمقاولات، ففي الوقت الذي یقع التمویل المصرفي لقطاع الإسكان على سبیل المثال في أقل درجاتھ ویأتي في ذیل المعدلات العالمیة، ویساھم بنصیب الأسد في خلق وتراكم أزمة الإسكان الحالیة، نجد بالمقابل أن ھذه الفجوة أدت إلى زیادة الطلب على الإقراض الحكومي وبشكل غیر مسبوق حتى تباعدت المسافة بین ماھو مطلوب وما ھو ممكن، فقبل أسبوع قرأت أن زیادة عدد المسجلین في قوائم الصندوق العقاري تحتاج لفترة انتظار تصل إلى 40 سنة، بمعنى أن الذي یتقدم بالطلب الیوم سوف یحصل على القرض بعد سن التقاعد، وھذه حقیقة ولیست نكتة، وخلال سنوات فإن المتقدم لن یسعفھ الوقت للاستفادة من القرض فترة حیاته والأعمار بید الله.
لیس ھذا فحسب، بل إن المؤسسات الصغیرة والمتوسطة التي تشكل 90 %من العمود الفقري للقطاع الخاص والمستودع الحقیقي لفرص العمل في كل دول العالم لا تستفید من ھذا التمویل ھي الأخرى، حالھا حال قطاع الإسكان، ولو قدر لأي منھا الاقتراض من البنك فإنھا قطعا لن تعیده للبنك للسبب نفسھ أیضا، والذي سوف أذكره عن سبب ضعف التمویل المصرفي في البلاد وھو عدم اعتراف النظام القضائي بالنظام المصرفي وعدم دخوله في عباءة ھذا النظام منذ إقامته، وبالتالي أصبح له تشریعاته وتسویاته المالیة (المدنیة) التي تصدر أحكاماً نھائیة وغیر قابلة للاستئناف في قضایا مصرفیة وبمئات الملایین من الریالات، وقد یقول قائل: وما الضرر في ذلك طالما ھذه اللجان قائمة بدورھا كما یجب ربما بصورة أكثر مرونة من القضاء ذاتھ؟
وھذا صحیح إلا أن مشكلة ھذه اللجان أنھا لا تستطیع أن تقدم ما یقدمه القضاء من الدورة القضائیة والتشریعیة المتكاملة للقطاع المصرفي وغیره، فمثلا اللجان لا تستطیع القیام بالرھن العقاري أو إصدار العقوبات الجنائیة للمتلاعبین بقروض البنوك التجاریة والمخالفین لنظام الأوراق المالیة وھو ما أوصد كل الأبواب أمام الاستفادة من البنوك وجعل السیولة تجري في جوانب أخرى مثل الاستھلاك (رھن الرواتب) أو شراء السندات الحكومیة أو الاكتفاء بقروض الشركات الكبرى، وبالتالي خرج قطاع التجارة والمقاولات والإسكان والعقار والصحة والتعلیم من الخدمة مبكراً في فرص التمویل، مما جعلھا تنمو بأدوات تقلیدیة بدیلة لا تلیق بحجم تجارة البلاد مثل معارض السیارات وغیرھا، والغریب أنه رغم أھمیة ھذه المعضلة كمعوق حقیقي للاقتصاد المحلي برمتھ، إلا أنك لا تسمع طرقاً لھذه المشكلة من أحد، لا من مؤسسة النقد ولا البنوك ولا مؤسسات القطاع الخاص وحتى من الجھات الحكومیة ذات العلاقة، خصوصا أن التمویل المصرفي ھو شریان الدورة الاقتصادیة، وینعكس بطریقة غیر مباشرة على قضایا وطنیة أكثر أھمیة وإلحاحا كالبطالة ونسبة نمو الناتج المحلي وغیر ذلك.