أظهر بيان الميزانية الأخير تقديرًا لنمو حقيقي للاقتصاد الوطني بنهاية العام الجاري عند 2.3 في المائة، مقارنة بتراجعه خلال العام الماضي بنسبة 0.9 في المائة، ومقارنة بنموه خلال 2016 بنسبة 1.7 في المائة، وبنسبة 4.1 في المائة خلال 2015، وكما تظهر المقارنة فالمعدل المقدر للنمو الحقيقي للاقتصاد الوطني جاء أفضل من العامين الماضيين 2016-2017، فيما لا يزال أدنى من النمو المتحقق في 2015، وهو بكل تأكيد أدنى من معدلات النمو الحقيقية للاقتصاد التي تحققت له منذ 2010 حتى نهاية عام 2015.
في المرحلة التي يمر خلالها الاقتصاد الوطني بعمليات واسعة وعميقة من الإصلاحات والتحولات، سيحدث بكل تأكيد كثير من التغيرات في القوى المحركة للاقتصاد، وسيحدث أيضا أن تتراجع قطاعات ونشاطات، وسيقابلها نمو وتوسع في نشاطات أخرى، وهو فعليا ما حدث على سبيل المثال لنشاطي الصناعة والخدمات خلال العامين الماضيين، ففي عام 2016 شهد تباطؤ معدل نمو نشاط الخدمات إلى 0.8 في المائة، مقارنة بمعدل نمو 2.9 في المائة خلال 2015، ثم عاد إلى الارتفاع خلال 2017 بمعدل 1.6 في المائة، ووصل بنهاية الربع الثاني من العام الجاري إلى معدل نمو بلغ 2.6 في المائة، أما بالنسبة إلى نشاط الصناعة، فقد تراجع إلى 2.3 في المائة بنهاية 2016، مقارنة بمعدل نمو 5.0 في المائة خلال 2015، واستمر في التراجع خلال 2017 مسجلا نموا سلبيا بلغ 2.4 في المائة، ثم عادت إليه وتيرة النمو خلال النصف الأول من العام الجاري، إلى أن وصل معدل نموه بنهاية الربع الثاني إلى 1.6 في المائة.
بالتركيز على عام 2017 تحديدا، ستجد أن نشاط الخدمات سجل نموا إيجابيا “1.6 في المائة”، في المقابل ستجد أن نشاط الصناعة سجل نموا سلبيا “-2.4 في المائة”، ما يعني أنك لو طرحت سؤالا واحدا على رجلي أعمال يعملان في النشاطين، فالأول في نشاط الخدمات سيجيبك أنه رابح وإن كان ربحه أقل من العام السابق، والثاني في نشاط الصناعة سيجيبك بأنه خاسر.
جزء كبير من المقارنة أعلاه، سيتيح لنا كثيرا من تفسيرات أسباب اختلاف نظرة عديد من الأطراف حول نمو الاقتصاد الوطني، مع الأخذ في الحسبان أننا جميعا نتحدث عن مرحلة إصلاحية للاقتصاد، وأننا نتحدث أيضا تحت معدلات نمو تعد الأدنى مقارنة بما كانت عليه قبل أكثر من ثلاثة أعوام، وهي أيضا أفضل من معدلات النمو العامين الماضيين.
يأتي هذا الحديث هنا كإضافة للإجابات العديدة التي أثارها سؤال أحد رجال الأعمال في لقاء إعلان الميزانية الأخير، وكونه يرى اختلافا بين الأرقام المعلنة والمنشورة للنمو الاقتصادي من جانب، ومن جانب آخر ما يراه من زيادة شواغر المحال التجارية في عديد من المدن وشوارعها، وهو السؤال الذي أخذ صدى واسعا، كونه يلامس واقع الأوضاع والتحولات التي يمر بها القطاع الخاص خلال الفترة الراهنة، والتأكيد على أن التباين الذي رآه رجل الأعمال، لا يقف عنده فقط بل هو ممتد إلى أفراد آخرين من مختلف شرائح المجتمع، وطرحه حق مشروع له ولغيره، والأهم من ذلك أن يحصل على الإجابة الشافية من الأجهزة الحكومية ذات العلاقة.
أن تجد الاقتصاد الوطني وقد تحمل عبء وجود كثير من التشوهات الهيكلية طوال عقود مضت، من تفاقم أعداد هائلة للعمالة الوافدة، وأن يكون غالبها من ذوي المهارات وشهادات التعليم المتدنية، وأن تنتشر أشكال التستر والغش التجاريين، وانتشار مفرط لأشكال الاحتكار والمضاربة، خاصة في السوق العقارية المحلية، وما نتج عنه من تضخم غير معقول ولا معقول لأسعار الأراضي والعقارات فاق قدرة أغلب أفراد المجتمع، ولم تقف آثاره السلبية عند ذلك الحد، بل امتدت إلى ارتفاع تكلفة الإيجارات على المجتمع وحتى على أرباب الأعمال، ووصلت إلى مستويات مرهقة جدا على دخل الفرد المستأجر، واستقطعت جزءا كبيرا من فاتورة تكلفة التشغيل والإنتاج، ولا يغفل هنا عن بقية التبعات السلبية الأخرى من انخفاض تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، والارتفاع المطرد لمعدل البطالة، والتضخم في تكاليف المعيشة طوال تلك الفترة الزمنية، وما ترتب عليه من زيادة الإنفاق الحكومي على أبواب الدعم الاجتماعي لمواجهة تلك الأعباء، وكثير من الآثار غير المحمودة التي أصبحت معلومة لدى غالبية أفراد المجتمع من عاملين ومن رجال أعمال على حد سواء، كل هذا أصبح في مجمله يشكل عبئا لا طاقة لأي اقتصاد حول العالم بتحمله أو لديه القدرة على التكيف معه لفترة أطول مما شهدها طوال عدة عقود مضت.
وحينما يتم العمل على مواجهة تلك الآثار والتحديات التنموية، الذي يقتضي بكل تأكيد تغيير قواعد اللعبة من رأسها إلى أخمص قدميها، فلا شك أن الواقع سيبدأ في التغير الجذري من القاع إلى القمة، ولا شك أن التغيير سيطرأ على جميع مربعات الاقتصاد ونشاطاته، ولا شك أن مواقع كثيرة ستعاني التحولات والتغيير، وأخرى ستجني ثمارا إيجابية منها، وسيظل الوضع كذلك إلى أن تستقر وتنتهي عمليات التغيير، الأهم في كل ذلك؛ أن نصل جميعا باقتصادنا الوطني ليقف على أرض أكثر صلابة، تثمر عن وجود قاعدة إنتاج متنوعة، وإن ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الكيانات التي كانت مجرد مواقع للتستر أو الغش أو حتى مجرد الاستيراد بالجملة من الخارج، والبيع بالتجزئة في الداخل، دون أي قيمة مضافة لا إلى الاقتصاد الوطني، ولا إلى تقليص معدل البطالة.
الاختلاف في فهم وإدراك المشهد العام لما يجري هنا ليس أمرًا سلبيًا، بقدر ما أن السلبية ألا تجد إجابات شافية ومقنعة تحمي برامج التحول والتطوير التي يشهدها اقتصادنا، ولا يجب أن تتوقف عن المضي قدما نحو غاياتها وأهدافها المهمة جدا مستقبلا.