أظهر الرقم القياسي لأسعار العقارات الصادر عن الهيئة العامة للإحصاء انخفاضًا بنسبة 16 في المائة، خلال الفترة بين الربع الرابع 2014 حتى نهاية الربع الأول 2017، وعلى أن غالبية المهتمين بالسوق العقارية، قد تجاوزوا كثيرا نقطة الخلاف حول ما إذا انخفضت أسعار العقار أم لم تنخفض، ليفرض منطق الواقع المشاهد عقاريا للجميع نفسه، وأن الانخفاض في الأسعار أصبح السمة المسيطرة في الوقت الراهن، ولم يبق إلا المتعلقون بالأوهام وحيدين وقلة من العقاريين وملاك الأراضي، هم فقط من لا يزالون في أبراجهم يزعمون صمود الأسعار، ولا يجدون من يصدق مقولاتهم إلا أنفسهم.
ليس هذا هو موطن النقاش هنا؛ إنما السؤال المحوري: هل يكفي ما حدث حتى تاريخه من انخفاضٍ في أسعار الأراضي والعقارات بتلك النسبة المتدنية أو نحوها؟ لا شك أن الإجابة ستأتي بالنفي المطلق! فما جرى من ارتفاعات هائلة في أسعار مختلف الأصول العقارية خلال الفترة من 2006 إلى 2014 بنسب فاقت الـ1000 في المائة، حتى وصلت أسعار الوحدات السكنية إلى أكثر من 30 ضعف متوسط دخل الفرد السعودي خلال أقل من عقد زمني، ولتصبح تكلفة تملك الفرد مسكنه ضمن الأعلى عالميا، إن لم تكن هي الأعلى على مستوى العالم! هنا سنجد أن نسبة انخفاض بـ16 في المائة أو حتى ضعف هذه النسبة من الانخفاض؛ تعد نسبة انخفاض لا تذكر من قريب أو بعيد أمام هذا التضخم الخطير جدا في أسعار الأراضي والمساكن في بلادنا.
ويزيد من فاجعة هذا الورم العقاري في الأسعار، إذا ما رجعنا إلى الأسباب أو التشوهات، التي وقفت خلف هذا التضخم الهائل، لنجد أنها جاءت بنسبة كبيرة جدا لاتساع احتكار الأراضي بمساحات شاسعة جدا، ألهب نيران أسعارها تركز مضاربات محمومة بمئات المليارات على ما لا يتجاوز 9 في المائة من مساحات تلك الأراضي طوال العقد الماضي، غذت حرائقها زيادة تدفقات السيولة المحلية بصورة غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد الوطني، لم تجد قنوات استثمارية متاحة لامتصاصها، سوى نوافذ السوق العقارية المفتوحة دون قيد أو شرط أو تكلفة.
ترتب كثير من الآثار الاقتصادية والاجتماعية المريرة نتيجة لتلك الفيضانات السعرية في السوق العقارية، وتحمل الغالبية “قطاع خاص، أفراد مجتمع” تكاليف باهظة على المستوى الإنتاجي والمعيشي جراء تضخم العقار، مقابل استفادة حفنة قليلة من اللاعبين النشطين في سوق العقار من ملاك أراض وعقارات وسماسرة. الإشارة الأهم فيما تقدم حول مقدمات وأسباب الفقاعة العقارية الأعلى عالميا لدينا، أنها ولدت وتوسعت نتيجة تشوهات وأمراض عاناها اقتصادنا الوطني ومجتمعنا على حد سواء، وأن القضاء على تلك التشوهات والأمراض، كما هو جار العمل عليه الآن، وفقا لبرامج وخطط إصلاح الاقتصاد الوطني الراهنة، سيكون أول نتائجها انهيار بيت العنكبوت السعري عقاريًا، الذي تسببت تلك التشوهات في ولادته وتضخمه حتى أصبح أكبر وأخطر عائق تنموي يواجه بلادنا اليوم، وأن ما جرى من انخفاضات سعرية محدودة جدًا، لا يوجد لها أي أثر يذكر أمام القامات العملاقة لأسعار الأراضي والعقارات، التي وصلت إليها، ولا يوجد لها أي أثر يذكر أمام ارتفاع تكلفة الإيجارات السكنية أو التجارية، التي تضاعفت بدورها خلال نفس الفترة بما لا يقل عن ثلاثة أضعاف مستوياتها، مقارنة ببداية الفترة.
سبق أن تحدث كثير من المهتمين عن الآثار الخطيرة تنمويا واقتصاديا واجتماعيا لاستمرار حياة الفقاعة العقارية، وأنها لا تجر خلفها إلا نتائج مروعة جدا على الجميع، وأن الدفاع أو التبرير لبقاء تلك الأسعار المتضخمة جدا على ما هي عليه، لا يقف خلف وجهة نظر أصحابها إلا نظرة قاصرة جدا، وتركيز موغل في الأنانية لا يأخذ في اعتباره سوى المحافظة على مصلحة فئة ضيقة جدا من المستفيدين منها، وأنها لا ولم تدرك أبدا حجم المخاطر الكبيرة، التي تحملها تجاه مقدرات البلاد والعباد، بدءًا من زيادة تباين الدخل في مختلف شرائح المجتمع على أسس غير سليمة، مرورا بتضخم تكاليف الإنتاج والتشغيل والمعيشة، والتسبب في إنهاك قوى الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، وإضعاف النمو المستدام والاستقرار التنموي والاقتصادي والاجتماعي، عدا إضعاف تنافسية الاقتصاد الوطني، وتكريس الاحتكار وتغذية جذوره المدمرة، وكل هذا معلومة نتائجه الكارثية على أي اقتصاد ومجتمع تتفشى فيه مثل هذه الآفات القاتلة. كل هذا مفهوم لدى الجميع لماذا لا ينظر إليه بعين الاعتبار، من قبل فئة محدودة العدد كانت هي الطرف الوحيد المستفيد من وجوده، عدا أن بعضها في الأصل جزء من تشوهاته الهيكلية التي أدت لتفاقم هذا التضخم والغلاء الهائل في الأسعار.
إننا نسير في الاتجاه الصحيح؛ تتقدم خطوات برامج الإصلاح والتطوير خطوة خطوة، ويتقدم معها بالتزامن تصحيح الأسعار المتضخمة بالوتيرة نفسها أو حتى أسرع منها بخطوة، وهو الاتجاه الجاد من الحكومة الذي سيستغرق عدة أعوام قادمة، حتى لو عادت أسعار النفط للارتفاع مرة أخرى بصفتها أكبر مغذ لنمو السيولة المحلية، لن تكون هيكلة الاقتصاد الوطني على سابق عهدها من الانسداد شبه الكامل أمام السيولة الباحثة عن فرص للاستثمار.
لهذا؛ ينتظر مزيد ومزيد من انخفاض الأسعار المتضخمة، التي سيسهم حدوثها ليس فقط في جانب حل أزمة الإسكان، بل أيضا في تعزيز فرص نمو الاقتصاد الوطني وتنويع قاعدته الإنتاجية، ومساهمته في زيادة مئات الآلاف من فرص العمل أمام الباحثين عنها من المواطنين والمواطنات، بما يؤدي إلى ترسيخ الاستقرار وتحسين مستوى الدخل.
وهو ما يجب أن يضعه في صلب تفكيره وحلمه كل باحث عن تملك مسكنه والاستقرار مع أسرته، وأن بشائر انخفاض أسعار الأراضي والعقارات كونها المصدر الأول للأزمة التنموية المحلية عموما لا مجرد الإسكان فحسب؛ أؤكد أنها لا تزال بمشيئة الله- تعالى- في بداية طريقها، الذي لن يطول كثيرا، وأن ما شهدناه من انخفاض محدود حتى تاريخه، سيتضاعف بنسب أكبر مع انحسار وزوال كل مغذيات أزمة العقار والإسكان تدريجيا، بدءا من الاحتكار مرورا بالمضاربات العقارية وانتهاء بالممارسات المخالفة للسماسرة وخلافهم. والله ولي التوفيق.