سبقت الإشارة في المقالين السابقين، إلى أن أهم وأبرز تحديين تنمويين يواجههما الاقتصاد الوطني في سياق الحديث عن عديد من التحديات التنموية القائمة خلال الفترة الراهنة – يتمثلان في:
الأول، زيادة توطين الوظائف في القطاع الخاص أمام آلاف طالبي العمل من الذكور والإناث المواطنين، الذي تم التوسع في الحديث عنه في المقال السابق الإسراع بمعدلات التوطين خلال 2019، والثاني، معالجة مشكلة صعوبة تملك المساكن التي تواجه أفراد المجتمع وأُسرهم، الذي سيتركز الحديث عنه هنا، من منظور العمل على الاستمرار في خطوات أكثر سرعة في اتجاه رفع معدلات تملك المساكن، وفق ضوابط تكفل تحقق هذا الهدف التنموي المشروع والمهم، ودون تكاليف عالية على المستفيدين المستهدفين من أفراد المجتمع.
بداية؛ على الرغم من الجهود المستمرة لوزارة الإسكان، والدور الكبير الذي لعبته الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد الوطني منذ منتصف 2016 حتى تاريخه، إضافة إلى التأثير الملموس للعوامل الاقتصادية والمالية، التي أسهمت مجتمعة في حدوث انخفاض للأسعار المتضخمة للأراضي والعقارات السكنية بمعدلات وصلت في المتوسط إلى 30 في المائة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، إلا أن تضخم الأسعار والإيجارات على حد سواء، لا يزالان يقفان حجر عثرة في طريق شرائح واسعة من أفراد المجتمع، وعائقا أمام تملكهم مساكنهم تحت مستويات عادلة للأسعار، التي تقترب من قدرتهم الفعلية من حيث كل من مستوى الدخل والقدرة الائتمانية.
ويؤمل أن تستمر وزارة الإسكان في تسريع جهودها وبرامجها عموما الرامية إلى تحقيق ذلك الهدف التنموي المنشود، والتأكيد دائما وأبدا على أن مشروعها الأهم بين تلك البرامج المعمول على تنفيذها من قبل الوزارة، المتمثل في نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، يعد الأداة الأقوى تأثيرا والأكثر أهمية لأجل تحقيق هدف رفع معدل تملك المواطنين مساكنهم، لتأثيره المباشر والفاعل في مستوى خفض الأسعار المتضخمة بصورتها الراهنة للأراضي والعقارات السكنية، وصولا بها إلى المستويات السعرية العادلة والمقبولة من قبل أفراد المجتمع الباحثين عن تملك مساكنهم.
أثبتت التجربة المحلية طوال الأعوام القليلة الماضية، أن انخفاض أسعار وإيجار الأراضي والعقار واستمرارها مستقبلا، يمثل أحد أهم السبل إلى دعم الاستقرار الاقتصادي، وزيادة فرص نموه واستدامته، التي ستؤدي بدورها إلى انخفاض تكلفة المعيشة على كاهل القطاع الاستهلاكي، الذي يشكل المجتمع الشريحة الأكبر منه، ويزيد من القوة الشرائية للأفراد، بما يعزز من الطلب الاستهلاكي المحلي، ويسهم في زيادة التدفقات على عموم منشآت القطاع الخاص، التي تضطلع بدورها في زيادة ضخ الاستثمارات المحلية، وزيادة تنوع قاعدة الإنتاج والتوظيف، ما يعزز في منظوره العام من الاستقرار الاقتصادي، ويسهم في ترسيخ دعائم النمو المستدام، ورفع مستوى الدخل، والدفع بتقدم عجلة التنمية المستدامة والشاملة، وفق عمل منظومة متكاملة ومتزنة للاقتصاد الوطني والمجتمع بشرائحه كافة، وبما يمنع من نشوء أي أزمات تنموية بالغة الضرر، كالتضخم والبطالة وانخفاض مستويات الدخل وارتفاع حجم المديونيات وتعثرها لاحقا، وغيرها من أشكال الأزمات الاقتصادية والمهددات لاستقرار أي بلد ومجتمع كان حول العالم.
دائمًا ما يتم التركيز في مجموع الحلول المطروحة خلال الفترة الراهنة على جانب التمويل بالنسبة إلى الأفراد، ووضعه في مقدمة الحلول المعمول على تنفيذها، ظنا أن تسهيل الحصول عليه من قبل الأفراد، وتوسيع خياراته أمامهم، يحمل وحده الحل السحري تجاه المشكلة الراهنة تنمويا المتمثلة في صعوبة تملك المساكن من قبل الأفراد، والحقيقة أنه يأتي في مرتبة متأخرة عن الحل الأول الواجب العمل على تنفيذه بالسرعة نفسها أو بدرجة أكبر، وهو الحل المتمثل في ضرورة انخفاض الأسعار المتضخمة لمختلف الأصول العقارية، وترتفع أهمية هذا الحل لعدة أسباب جوهرية، لا يمكن تجاوزها والقفز فوقها بأي حال من الأحوال، كما ترتفع أهمية العمل على حلها قبل أي قيام ببذل أي جهود أخرى، لما في استدامة هذا العائق “استمرار تضخم الأسعار” من مخاطر تهدد بوجودها احتمال نجاح أي برامج أخرى تستهدف رفع معدلات تملك المساكن لدى أفراد المجتمع.
من أهم وأبرز الأسباب الجوهرية المرتبطة بضرورة العمل المستمر، والأعلى جهدا على مستوى انخفاض الأسعار المتضخمة لمختلف الأصول العقارية، أنها أولا، جاءت نتيجة تشوهات هيكلية واسعة وعميقة، كانت متجذرة في أحشاء السوق العقارية المحلية، وما قامت به الإصلاحات الاقتصادية الراهنة ولا تزال تقوم به، أنها استهدفت القضاء تماما على تلك التشوهات، وهو ما حدث فعلا طوال الأعوام الثلاثة الماضية، ويؤمل استمرارها وصولا إلى أهدافها النهائية، وهنا يجب التأكيد على أن القضاء على تلك التشوهات، يعني في إحدى أهم نتائجه على الإطلاق، أن يتم أيضا القضاء على ما ترتب عليه من آثار ونتائج، والمقصود هنا هو الأسعار المتضخمة للأصول العقارية على اختلاف أنواعها، فكما تم القضاء على السبب “التشوهات”، فلا بد من القضاء أيضا على ما نتج عنه من وجود ذلك السبب “التضخم”.
ثانيًا: أن استدامة نتائج تلك التشوهات التي كانت كامنة في السوق العقارية، على الرغم من نجاح الجهود والبرامج في القضاء على أسبابها كما هو مشاهد الآن، تعني تهديدا صريحا لنجاح أي برامج أخرى تستهدف رفع معدلات تملك المواطنين مساكنهم، كون “تضخم الأسعار” هو الجوهر الفعلي لهذه المشكلة التنموية “صعوبة تملك المساكن”، وهو ما تثبته وقائعها على الأرض خلال الفترة الراهنة.
وعليه؛ يجب التأكيد على أن النجاح في جهود خفض الأسعار، والعمل الفعلي والجاد على تحقق ذلك الأمر، مرتبط حصرًا بما يتم عمله على مستوى تطبيق نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، وأن الإسراع في اتجاه تطبيق بقية المراحل الأخرى من النظام، كفيل بأن يؤدي إلى تحقق هذا الأمر البالغ الأهمية، الذي سيؤدي بدوره إلى تحقق نتائج أكبر على مستوى رفع معدلات تملك المساكن لدى أفراد المجتمع بإذن الله تعالى. والله ولي التوفيق.