وفقا لما نشره عديد من وسائل الإعلام تعكف لجنة الحج والإسكان في مجلس الشورى على دراسة إلغاء الدفعة المقدمة للقرض المدعوم – 10 في المائة من قيمة العقار – الواجب على المستفيد دفعها إلى الجهة الممولة، وتستند اللجنة حول السبب الرئيس لتبنيها هذه التوصية، إلى أن كثيرا من المواطنين يعانون مشقة دفع المبلغ المالي اللازم للوفاء بتلك الدفعة المقدمة.
في الوقت الذي ترى اللجنة في مجلس الشورى أنها بتبني تلك التوصية، ستسهم في تجاوز تلك العقبة أمام المواطنين، ففي جوانب أخرى بالغة الأهمية غابت تماما عنها، ستفتح أبوابا لا حصر لها من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد الوطني والقطاع التمويلي والسوق العقارية، بل يصل بعض تلك الآثار إلى مستويات مرتفعة جدا، وما نتائج ما حدث خلال الأزمة المالية العالمية 2008 عنا ببعيد، بل ما زال الاقتصاد العالمي يعاني تداعياتها حتى تاريخه، على الرغم من مرور أكثر من 12 عاما على اشتعالها.
إذ يوجد كثير من الحلول البديلة، التي من الأفضل التوجه نحوها والأخذ بها، وهي الحلول التي تتمتع بكونها الخيارات الأنسب ضمن المنظومة المتكاملة للحلول اللازمة لمواجهة مشكلات سوق الإسكان لدينا، بعيدا عن الحلول الجزئية والمتسرعة أحيانا، أو حتى تلك الحلول السهلة والمباشرة في نظر كثير دون الأخذ في الحسبان ما قد يترتب عليها من تداعيات بالغة الضرر. إن حلولا أو خيارات قد تتخذ بتلك الطرق المتسرعة التي بإغفالها جوانب أخرى بالغة الأهمية، لا يجب أبدا إغفالها بأي حال من الأحوال، سيترتب عليه وقوع كثير من الآثار العكسية والسلبية التي ستزيد تعقيد التحديات والمشكلات التي نحن في مواجهتها، ولا يمكن للجنة الحج والإسكان تصور المخاطر التي ستقترن بالأخذ بمثل هذه التوصية، خاصة في الظروف الراهنة التي تعيشها السوق العقارية المحلية، التي ما زالت تعاني زيادة احتكار واكتناز مساحات شاسعة جدا من الأراضي داخل المدن والمحافظات، ما تسبب في حدوث التضخم الهائل للأسعار السوقية للأراضي ولمختلف الأصول العقارية الأخرى، قابله في الوقت ذاته عدم اكتمال تنفيذ نظام الرسوم على الأراضي البيضاء الذي ما زال بداية مرحلته الأولى منذ أكثر من أربعة أعوام، وهنا يتبين للجنة في مجلس الشورى أن سبب معاناة المواطنين ليس كما بدا ظاهرا لها محصور في مجرد وجود الدفعة المقدمة – 10 في المائة من قيمة العقار – بل يتركز في الغلاء الهائل لقيمة ذلك العقار السكني، وهنا يكمن الفرق الكبير جدا بين أن تظن أن المشكلة تتمثل فقط في وجود تلك الدفعة المقدمة، وبين أن ارتفاع قيمة تلك الدفعة المقدمة مرتبط في الأصل بالقيمة باهظة الثمن التي تحيط العقار السكني المستهدف.
إذا ظنت اللجنة أنها بإلغاء تلك الدفعة المقدمة قد أراحت المستفيد – المواطن – من دفعها في البداية، فهي في جانب آخر قد تسببت في: (1) أنه سيدفعها مضاعفة عبر تحمله لها ضمن القرض العقاري الذي سيتحصل عليه. (2) سيتحمل شراء مسكنه بأسعار أغلى مما كان عليه قبل إقرار هذه التوصية، لأنها ستسهم في مزيد من ارتفاع الأسعار السوقية، خاصة في ظل تأخر استكمال بقية إصلاحات السوق العقارية المحلية، لعل من أهمها نظام الرسوم على الأراضي البيضاء داخل المدن والمحافظات. (3) بناء على ما تقدم سيتحمل المشتري أعباء قروض عقارية أكبر من السابق، ونسبة استقطاع أكبر من دخله الشهري، كلما اقتربت تلك النسبة من 60 إلى 65 في المائة من الدخل الشهري للمشتري، تحمل أعباء بالغة الصعوبة والتعقيد، وهي بكل تأكيد ستضاعف بدرجة شديدة من أشكال سوء المعيشة، وهو الأمر الذي نتفق عليه جميعا بمن فيهم أعضاء لجنة الحج والإسكان أنفسهم على رفض وقوعه، وأهمية العمل على منع حدوثه لأي فرد من أفراد المجتمع.
قد يكون من الأجدر لو قامت اللجنة في مجلس الشورى بتبني توصية أخرى ستحمل مع إقرارها وتطبيقها الوصول إلى هدف توصيتها نفسه بإلغاء الدفعة المقدمة، لكن بنتيجة أفضل بكثير ستخدم المواطنين وتقلل من على كاهلهم تكلفة امتلاك المساكن بأسعار أدنى بكثير، وبتحمل أعباء قروض عقارية أقل تكلفة لمدد زمنية تمتد إلى ما بين 20 و25 عاما، ولا تتجاوز نسب استقطاعها من الدخل الشهري للمستفيدين 40 في المائة كحد أقصى، والإسهام بذلك في المحافظة على الاستقرار الاقتصادي والمالي والاجتماعي. تتمثل التوصية المقترح الأخذ بها هنا في قيام وزارة الإسكان بتطبيق المراحل المتأخرة من نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، وتوصي اللجنة هنا ببدء تطبيق المرحلتين الثانية والثالثة حيث سيسهم تطبيقهما في الإسراع بإصلاح تشوهات السوق العقارية المحلية، ويؤدي بدرجة أكثر فعالية إلى سرعة توازن العرض والطلب، وعودة الأسعار المتضخمة جدا إلى مستويات أكثر عدالة، وكل هذا ستترتب عليه حماية الاقتصاد والحكومة والمجتمع من تحمل مزيد من أعباء القروض العقارية وفوائدها الكبيرة، كما سيسهم في زيادة الطلب الاستهلاكي المحلي وتنشيط الأداء والنمو، وهو ما سيسهم بدوره في ارتفاع نمو القطاع الخاص وزيادة قدرته على الإنتاج والتوظيف وتنويع قاعدته الإنتاجية.
ختاما: يدخل تحديد تلك النسبة للدفعة المقدمة من ضمن مهام ومسؤوليات مؤسسة النقد العربي السعودي “البنك المركزي”، التي يقتضي نجاحها في أداء مهامها بالغة الحساسية أن تتمتع بالاستقلالية التامة، شأنها في ذلك شأن جميع البنوك المركزية في جميع الاقتصادات حول العالم التي تتولى تحديد أسعار الفائدة ونسب الإقراض والتمويل وغيرها كثير من الأدوات المرتبطة بكفاءة السياسة النقدية وفعاليتها، بناء على ما تظهره لها المؤشرات الاقتصادية والمالية والنقدية، وليس لأي طرف خارجها أن يفرض عليها – على سبيل المثال – رفع أو خفض معدل الفائدة، أو تغيير نسب الإقراض إلى حجم الودائع، أو زيادة أو خفض حجم النقد المصدر في الاقتصاد، وغير ذلك من المهام والمسؤوليات بالغة الحساسية اقتصاديا وماليا، وهي الجهة الرسمية المسؤولة عن أي نتائج أو آثار ستترتب عليها نتيجة القرارات المرتبطة بأي أداة من أدوات السياسة النقدية، لعل من أبرز تلك الآثار ما يرتبط بالتضخم وتأثيره العكسي في القيمة الحقيقية للعملة الوطنية، الذي يتغذى بالدرجة الأولى من خفض معدلات الفائدة، وزيادة تسهيلات الحصول على التمويل المصرفي، خاصة أثناء الفترات التي يكون خلالها الاقتصاد في أوضاع لا تتطلب اتخاذ مثل تلك التدابير، ما سينتج عنه كثير من الآثار العكسية بالغة الضرر.