يعد حل تسهيل حصول الأفراد على التمويل اللازم لشراء المسكن “تعزيز جانب الطلب في السوق”، جزءا مهما ومكملا ضمن مجموعة من الحلول المتكاملة التي تشمل جانبي العرض والطلب، ولا يمكن اعتباره حلا وحيدا يتم الاعتماد عليه، إذ إن هناك حلولا أخرى مرتبطة بمعالجة أوجه القصور في جانب العرض، من استمرار احتكار مساحات شاسعة من الأراضي السكنية في يد قلة من الملاك، واستمرار مغذياته السعرية من عمليات تدوير ومضاربة على المساحات الأدنى منها، وتصب نتائجها المتصاعدة سعريا بصورة غير مبررة في نهاية الأمر، لتنعكس على مستويات تقييم الأراضي بشكل عام بالارتفاع، والسماح باستمرار تلك العلاقة الطردية دون أية حلول توقفها عند حد معين.
إن حالة كهذه تفتح الأبواب على مصاريعها في جانب الطلب، تسمح بتدفق عشرات المليارات من الريالات، إلى أروقة سوق بالغة الضيق في جانب العرض، وذلك يعني تماما تمهيد الطريق على أوسع نطاق لزيادة اختلال توازن القوى المؤثرة في السوق العقارية، وإلى زيادة أكبر في الأسعار السوقية لمختلف الأصول وتضخمها إلى مستويات غير مسبوقة، ووصولها إلى مستويات سعرية تفوق بما لا يدع مجالا للمقارنة حتى بما كانت عليه قبل معالجة مشكلة صعوبة تملك المساكن!
هذا الأمر يقتضي بدوره العمل سريعًا على تحرير حلول جانب العرض من نقطة الجمود التي يقف عندها، والسماح بتقدم وتنفيذ أدواتها التي يتقدم أولوياتها تطبيق بقية مراحل نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، لتنتقل من مرحلة شمولها للأراضي البيضاء الخام ذات مساحات عشرة آلاف متر مربع فأكثر، إلى المرحلة الثانية التي تشمل الأراضي المطورة ذات مساحات عشرة آلاف متر مربع فأكثر، ثم الثالثة التي تبدأ من الأراضي المطورة ذات مساحات خمسة آلاف متر مربع فأكثر. ذلك أن الوضع الراهن فتح الباب لانتقال أغلب الأراضي البيضاء الخام إلى الأراضي المطورة، التي تعد منطقة الدفء والأمان المعفاة من الرسوم عليها، والاستفادة من ثم من التطورات الراهنة التي تصب بالكامل في مصلحتها، وتمريرها إلى أيادي المستخدمين النهائيين المدعومين بسهولة الحصول على التمويل اللازم، وفق أعلى الأسعار السوقية الممكن بلوغها، في اتجاه معاكس تماما للأهداف التي لأجلها تم إقرار نظام الرسوم على الأراضي البيضاء.
تملكجدا على الأطراف كافة “الحكومة، المجتمع، القطاع الخاص”، ويزيد من معدلات المخاطر على الجهات التمويلية مستقبلا، في الوقت ذاته الذي تنحصر فائدته لمصلحة ملاك تلك الأراضي ومن يرتبط بهم من سماسرة ومضاربين، رغم أن العمل على تفعيل بقية مراحل نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، من شأنه أن يعكس تلك المعادلة تماما، ويحول بدوره كل تلك التطورات لتصب فوائدها لحساب الاقتصاد الوطني والحكومة والمجتمع، عبر انخفاض الأسعار وتكلفة تملك المساكن وحجم التمويل اللازم. ولا يقف الأمر عند ما تقدم فحسب؛ بل يمتد وفق صيغة وآلية التمويل الراهنة التي تستقطع من المقترضين الأفراد، نسبا مرتفعة لسداد أقساطها الشهرية، يتحمل عبئها الأفراد في أصول السداد، والحكومة في جانب دفع فوائدها الشهرية، وهو ما سبق الحديث عنه تكرارا في أكثر من مقام، وما يحمله من آثار عكسية في الاقتصاد الوطني عموما، وفي المستويات المعيشية لكثير من أفراد المجتمع، وامتداد آثاره إلى القطاع الخاص الشريك الاقتصادي، المستهدف رفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، ومساهمته في توطين الوظائف.
الأمر لا يقف عند مجرد ارتفاع تكلفة تملك مسكن من طرف فرد مستفيد، أو ارتفاع تكلفة تمويله عقاريا، بل يتجاوز كل ذلك إلى أضراره على الاقتصاد، كان من أبرز وأهم تلك الأضرار أربعة منها على سبيل المثال لا الحصر، التي تتطلب جهودا واسعة ومتكاملة للحد من آثارها اقتصاديا وماليا واجتماعيا، سبق استعراضها في مقام سابق.
أولا: إن منشآت القطاع الخاص تواجه كثيرا من التحديات المرتبطة بالإصلاحات الهيكلية للاقتصاد الوطني، تلتقي أغلبها عند ارتفاع كثير من بنود التشغيل والإنتاج “رسوم العمالة والبلدية وغيرها من الرسوم، أجور العمالة الوطنية، تكلفة استهلاك مصادر الطاقة، ضريبة القيمة المضافة، ضريبة الدخل على الطرف الأجنبي، إلخ”، وهي الإصلاحات الاقتصادية البالغة الأهمية لأجل الانتقال بالاقتصاد الوطني إلى الوضع المستهدف له وفقا لـ”رؤية المملكة 2030″، التي ستضعه على أرض أكثر صلابة وثباتا واستقرارا بعيدا عن الاعتماد المفرط الذي كان عليه طوال عقود طويلة مضت، وتؤهله فعلا لزيادة الإنتاج وتنويع قاعدته الإنتاجية، ويعد القطاع الخاص هنا العصب الأهم والأكبر لنجاح هذا الهدف الاستراتيجي، والمعول على اضطلاعه بتلك المهام والمسؤوليات التي لا يقبل النقاش حولها.
ثانيا: ينتظر من القطاع الخاص أن تتكامل جهود منشآته مع الجهود الحكومية في مواجهة أحد أكبر التحديات التنموية، التي نواجهها اليوم ممثلا في تحدي البطالة بين المواطنين والمواطنات، وكما أظهرت البيانات الرسمية الأخيرة أن جهود تلك المنشآت جاءت أدنى من المأمول بدرجة كبيرة، على مستوى خفض معدل البطالة، ولعل ما تقدم ذكره في الفقرة السابقة يوضح جزءا كبيرا من الأسباب التي حدت من قدرة القطاع الخاص على هذا المسار، ويؤكد أيضا أن نجاحا وتقدما ملموسا في هذا الاتجاه من شأنه أن يحدث فوارق كبيرة جدا، تؤهل منشآت القطاع الخاص ويدعمها في اتجاه رفع قدرتها على التوطين بشكل أقوى وأكثر فاعلية، بمجرد انخفاض فاتورة التكلفة العقارية على كاهلها.
ثالثا: سيسهم استمرار انخفاض التكلفة العقارية “شراء، إيجار” على المواطنين بدرجة كبيرة في تحسن مستوياتهم المعيشية، ويزيد من قدرتهم على الإنفاق المحلي، ويسهم بدوره في زيادة معدلات النمو الاقتصادي.
رابعا: سيسهم استمرار انخفاض التكلفة العقارية “شراء، إيجار” على كاهل الحكومة، في جنيها كثيرا من المكاسب، لعل من أبرزها انخفاض نفقاتها على دفع إيجارات مقراتها المستأجرة، التي تفوق وفقا لأحدث البيانات الصادرة نسبة 65 في المائة من مبانيها، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من ترشيد الإنفاق الحكومي، الذي سيسهم بدوره في خفض العجز المالي الحكومي، ومن جانب آخر سيغنيها عن زيادة بنود الإعانات الحكومية المرتبطة بجانب السكن وخلافه. فهل نرى قريبا إعادة لذلك التوازن المفقود في مرحلته الراهنة إلى حلول تملك المساكن؟