امتدادا للحديث الموسع حول قروض صندوق التنمية العقارية، ودوره الضعيف في حل أزمة الإسكان المحلية، وضرورة اتخاذ سبل مختلفة عما اعتاد عليه طوال أربعة عقود مضت، كان من ضمنها اقتراح تخفيض القرض من 500 ألف ريال إلى 300 ألف ريال كمرحلة أولى، والتدرج بخفضه مستقبلا حسبما تظهره مؤشرات السوق العقارية “تخفيفه من جانب الطلب”، وزيادة ضخ القروض العقارية في جانب العرض، وهو الجانب الذي يعاني سيطرة الاحتكار على أغلب مساحات الأراضي، زاد من الغلو في أسعارها تفاقم أشكال المضاربة والمساهمات العقارية على المتاح المحدود منها.
قرأت الردود والتعليقات الرافضة مشروع تخفيض القرض العقاري، ولم أجد حجة مقنعة لتلك الآراء الممانعة للمشروع، سواء تلك التي ذهبت إلى التحجج بمحدودي الدخل، وأن القرض العقاري هو السبيل الوحيدة لتملكهم مساكنهم، أو أن القرض العقاري بالكاد يكفي لبناء وحدة سكنية، في تلميح إلى ضرورة زيادته “الدوران مرة أخرى في الحلقة المفرغة الراهنة”. بالطبع تفتق كثير من الحجج الممانعة للمشروع من جانب تجار الأراضي والعقارات، بل كانت ردة فعلهم أقوى بكثير من ردود المستفيدين والمنتظرين على بوابة صندوق التنمية العقارية، لعل الأمر الإيجابي في ردود وتعليقات تلك الأطراف غير المعنية من قريب أو بعيد بتسلم قروض الصندوق؛ أنها كشفت دون أن تعلم أنها الطرف الأكثر استفادة من غيرها من الأطراف من استمرار النمط الراهن لعمل صندوق التنمية العقارية، سبقت الإشارة إلى تلك الفائدة العظمى بالنسبة إليهم، أنها تمثل أحد أكبر دوافع رفع الأسعار بمجرد الإعلان عن صرف دفعة من دفعات الصندوق، أو الأهم بمجرد الإعلان عن زيادة حجم القرض العقاري، كما حدث آخر مرة في عام 2011، وما ترتب عليه من ارتفاع لمتوسط أسعار الأراضي السكنية في عام 2012 بنسبة 88.3 في المائة، ثم ارتفاعه بنسبة 70.7 في المائة نهاية عام 2013، سرعان ما هدأت وتيرته في العامين التاليين 2014-2015 نتيجة بدء تطبيق الإجراءات الحازمة على التمويل العقاري البنكي “اشتراط دفع 30 في المائة كمقدم لقيمة شراء الأصل العقاري”، تلاها إقرار الرسوم على الأراضي البيضاء داخل المدن والمحافظات، لتتراجع متوسطات أسعار الأراضي السكنية بنحو 19.5 في المائة ونحو 22.4 في المائة على التوالي، وهي نسب انخفاض لا تكاد تذكر مقارنة بنسب الارتفاعات الهائلة التي تحققت لأسعار الأراضي خلال الفترة 2006-2014، التي فاقت في المتوسط عشرة أضعاف أسعارها مقارنة بمستوياتها بداية الفترة!
لا شك أن الدور الذي قام به صندوق التنمية العقارية حينما تم إنشاؤه كان مهما وكبيرا، لكنه ظل يتراجع عقدا بعد عقد إلى أن وصل بنا إلى نهاية الطريق شبه المسدود كما نواجه اليوم، وتحت التحولات التي مر بها الاقتصاد والمجتمع خلال 45 عاما مضت، وتشكل تحديات أو تشوهات في السوق العقارية لم تكن في الأصل موجودة حينما بدأ الصندوق عمله، لعل من أهمها احتكار الأراضي بمساحات شاسعة جدا، اضطر الحكومة إلى إقرار الرسوم عليها، لمحاربة تلك الظاهرة الخطيرة. وما نشاهده اليوم من مؤشرات فعلية بدءا من:
(1) عجز نحو ربع مليون مستفيد عن تسلم قروضهم العقارية المعلن عن استحقاقهم لها، واضطرارهم إلى خوض خيارات تمويلية إضافية معقدة لعلها تساعدهم على الاستفادة من قروض الصندوق، وتحملهم مزيدا من القروض البنكية، بسبب ارتفاع الأسعار والتكاليف التي بدأت حلولها متأخرة.
(2) لجوء شريحة واسعة من المستفيدين من تلك القروض العقارية إلى الصندوق لبيعها بالكامل، ضمن سوق سوداء تتيح شراء تلك القروض العقارية، وتفويت فرصة المواطن هنا بالاستفادة من القرض العقاري، ووقوعه بين خيارين، كلاهما أمر من الآخر حال لم يستطع إيجاد حلول أخرى، إما أن يتنازل عن القرض فيفوته نصيبه منه، أو يضطر إلى بيعه لأطراف أخرى تقوم تجارتها على شراء قروض صندوق التنمية العقارية.
إن التحجج بالشرائح من المجتمع محدودة الدخل والفقيرة، له من خيارات الحلول الأخرى الكثير، لعل من أهمها في المرحلة الراهنة أن تتولى وزارة الإسكان تقديم منتجات إسكانية جاهزة لها، وإبعادها تماما عن هذه الطرف الوعرة لتملك مساكنها. أما بالنسبة للشرائح الأعلى منها دخلا؛ فالخيارات مفتوحة أمام صندوق التنمية العقارية حسب السمات التي تتصف بها، فمن يمتلك أرضا يمكن للصندوق أن يموله خلال الفترة الراهنة بنفس القرض العقاري المحدد اليوم، أما بالنسبة لمن لا يمتلك أرضا فما جدوى تمويله بأي حجم من القروض، والنتيجة النهائية معلومة لدى صندوق التنمية العقارية قبل غيره! وما نراه من تزاحم المتعثرين عن تسلم قروضهم العقارية خير شاهد هنا، وهو أيضا مؤشر مهم جدا لصندوق التنمية العقارية ليقوم بتغيير برامجه وسياساته الإقراضية.
إن على وزارة الإسكان أن تسرع من خطواتها في الاتجاهات التالية:
(1) ضرورة العمل على زيادة العرض من الأراضي والمنتجات العقارية بأسعار أدنى بكثير مما هو قائم اليوم، سواء عبر ضخها أراضي مطورة ومهيأة للبناء، وفي مواقع مناسبة قابلة للسكن، تنافس بعروضها الأراضي المعروضة من قبل بقية تجار الأراضي المتحكمين في أسعارها. أو عبر الإسراع بتطبيق الرسوم على الأراضي بصورة شاملة، بما يسهم في انخفاض أسعارها إلى المستويات التي تقترب من قدرة الدخل لدى الأفراد.
(2) أن تساند الوزارة مؤسسة النقد في الالتزام بضوابط التمويل العقاري الراهنة، بل وتشجعها على زيادة مقدم التمويل العقاري في المواقع المسيطر عليها بدرجة أكبر تعاملات المضاربة المحمومة، لا كما هو قائم الآن من بحث وسعي دؤوب من قبل الوزارة لأجل خفض نسبة المقدم!
(3) أن تعيد الوزارة كونها الجهة المشرفة على عمل صندوق التنمية العقارية، دراسة تطوير دور الصندوق وآلية عمله، بدءا من تخفيض حجم القروض الراهنة كمبدأ عام، مرورا بجدوى تثبيته بالنسبة إلى من يمتلكون أراضيهم وأهمية الإسراع بإقراضهم قبل غيرها، واستبداله بالنسبة لمن يعدون ضمن الشرائح الأدنى من حيث الدخل بمنتجات سكنية مناسبة، وهم الشريحة السكانية التي لم ولن تكفيهم القروض العقارية من الصندوق، والرفع إلى المقام السامي بمشروع شامل يغطي دور الصندوق، بما يتوافق مع المرحلة الراهنة التي يمر بها الاقتصاد والسوق العقارية على حد سواء. (4) أن تأخذ تلك الدراسة بعين الاعتبار أهمية زيادة ضخ القروض العقارية من الصندوق لمصلحة جانب العرض، والتوسع في ضخ القروض الاستثمارية للشركات العقارية المطورة، والعمل على تفكيك أشكال احتكار الأراضي وضرورة تطويرها، بالتزامن مع تطبيق الرسوم على الأراضي. ومن يعلم؛ فقد يأتي الزمن الذي لا حاجة إلى المواطن للوقوف على أبواب صندوق التنمية العقارية، إذا ما انخفضت الأسعار المتضخمة للأصول العقارية، وتوافرت حلول أقل تكلفة تحقق له مبتغاه. والله ولي التوفيق.