على أرض الواقع، كل الدعم الذي قدم على مدار السنين الماضية كان يهدف للوصول الى هذه اللحظة, وأقصد بها لحظة الرفع التدريجي للدعم، كل ما على فوق ارض المملكة كان مدعوما على مدى السنين الماضية حتى يستطيع الاقتصاد من الوقوف على ارجله بلا دعم ان صح التعبير، نحن الآن في مرحلة فطام تتحول كافة منشآتنا فيه الى منشآت ذاتية التشغيل، وهذه المرحلة هي الأهم وهي الأصعب.
أقول الأهم لأنه لا يمكن لنا المنافسة ولا الاستمرار بدونها، أقول الأهم لأنها تحدد اما أن نكون أو لا نكون، وكلي ثقة بأننا سنكون لا محالة.
وهذه المرحلة هي الأصعب أيضا لان كل التشوهات التي صاحبت مراحل الدعم ستختفي ان لم تصلح حالها على الفور، وما ينطبق على المنشآت ينطبق على الافراد.
فعلى سبيل المثال تم خلال الفترة الماضية تكوين منشآت ضخمة بكل ما تعنيه الكلمة في قطاع المقاولات، قامت بتنفيذ مشروعات ضخمة بكل ما تعنيه الكلمة؛ الإ أن الملاحظ ان الدعم الحكومي الذي كان معطى لها لم يكن كفيلا لأن تنافس دوليا على الرغم من الفوائض المليارية التي تكونت لديها على مدى الاعوام المتتالية، بل وتحولت هذه المنشآت الى كيانات موسمية غير قادرة على الديمومة ولم تنجح في تنفيذ ولو مشروع ضخم واحد خارج المملكة؛ ناهيك عن المشاريع الفاشلة التي قامت بها داخليا والتي كانت (خبط لزق) بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وقس على ذلك كثير من الكيانات المليارية التي تترنح كلما عصف بأسعار البترول عاصفة، وكأن القطاع الخاص اصبح هو الآخر مجرد اسير نفطي لا يقوى على الحراك دونه، في وقت يتبجح فيه ملاك هذه الكيانات في اموالهم التي تم حلبها من منشآتهم، والتي استنفذت هي الأخرى في كماليات وبذخ ما أنزل الله به من سلطان.
القطاع الخاص لا يمكن له ان يسمى قطاع خاص ما لم يقوى على المنافسة بلا دعم، ليس داخليًا فقط بل حتى خارجيا وهذا هو الهدف النهائي الذي نطمح له.
لا د ان يكون القطاع الخاص مولدا للدخل للمملكة وليس مجرد آلة للتشغيل الداخلي و تدوير أموال النفط. ها هي كوريا الجنوبية تنافس اليابان والصين والولايات المتحدة في السيارات والاجهزة الالكترونية وغيرها وهي لا تملك أي مورد طبيعي لا نفط ولا غاز ولا ما هم يحزنون, كل ما يملكونه ارادة وادارة حصيفة.
وعودة الى عنوان المقال، فأقصد بالارتفاع ارتفاع تكاليف الحياة بمقدار الدعم الذي رفع و بمقدار الزيادة في اسعار الطاقة والزيادة الناتجة من ضريبة القيمة المضافة، وهذا سيحدث وسيتم التعامل معه وفق ما قدم من برامج للدعم لكافة المستحقين والتي سيتم مراجعتها دوريا لقياس كفاءتها و ذهابها لمستحقيها.
اما الانخفاض الذي اقصده تحديدا هو انخفاض اسعار العقار الذي لم يصل الى مستوياته الدنيا بعد، فما زال تأثير ارتفاع اسعار الكهرباء والماء غائبا عن الصورة, وما زال تأثير وجود جاليات من دول عديدة يؤثر في معادلة الطلب على مساكن الايجارات، وما زال تأثير رسوم الأراضي البيضاء لم يأخذ مجراه بشكل كامل، وما زالت العقود الطويلة على كثير من العقارات التجارية سواء محال أو مكاتب تمسك بالأسعار وان كان الانخفاض بهما بدء فعليًا، كل هذه العوامل ستؤثر في سوق العقار بما يجعل انخفاضه حتميًا، ومتوقع بدرجة أعلى من درجة ارتفاع ما سواهما.
خروج العمالة كنتاج للسياسات الاقتصادية الجديدة سيؤثر كذلك في سعودة الوظائف، وهذا مهم جدًا، فعملية احلال النساء المشاهدة في كل المجمعات التجارية والملاحظة في كثير من المواقع الادارية يشكل نقطة مهمة في تفعيل جزء كبير من العوائل اقتصاديا بما يجلب للبيوت السعودية دخلا اضافيا مساعدا. وهذا ايضا سيمحو جزء لا بأس به من تأثير الارتفاعات الناتجة عن تحولنا الى اقتصاد كفوء قادرا على الوقوف بنفسة.
لا يمكن لاقتصادنا ان يستمر الى الأبد في تلقي الدعم, والا سنصل الى مرحلة لا تكفي عوائد النفط على تغطية الصيانة ورواتب الموظفين الحكوميين، وحينها ستكون الطامة على رأس الجميع بلا استثناء، وما يحدث الآن هو عملية فطام لابد ولامناص منها.
ومن الايجابيات التي بدأت والمتوقع رؤية المزيد منها اطلاق الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة بوابة لاسترداد الرسوم الحكومية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة التي يقل عمرها عن ثلاث سنوات أو التي ستنشئ جديدة، والتي تأتي تنفيذا للأمر السامي باعتماد مبلغ قدره 72 مليار ريال لدعم القطاع الخاص.
وهذه المبادرة وغيرها التي من المتوقع ان ترى النور قريبا تهدف الى تحفيز الشباب والشابات على تكوين منشآتهم الخاصة بما يحقق ذواتهم وبما يؤدي الى جعل العمل الحر مغريا لخوض غمار التجربة فيه.
كل ما يحدث الآن على الساحة الاقتصادية لبلادنا اعادة لترتيب الاوراق والجهود لخلق بيئة تنافسية قادرة على خوض المستقبل بعيدا عن الارتهان لتقلبات اسعار النفط الناضبة بطبيعتها. ما يحدث الآن عملية ليست سهلة البتة؛ ولكننا قادرون على تخطيها بأذن الله بما يجعلنا أقوى وأقدر وأكمن على الديمومة في عالم لا بقاء فيه الا للأقوى.