يبدو أن الثقافة العمرانية بعد جائحة كورونا تستعد لتحديات جديدة تتركز بشكل خاص في منهجية إدارة المدينة التي تساهم بشكل أو بآخر في خلق “مدن مريضة” تظهر أمراضها بقوة أثناء الأزمات. شخصياً كنت آمل أن يتطور كود بناء خاص بمساكن العمال في مدننا
خلال الأيام القليلة الفائتة ظهرت العديد من الدراسات والمقالات حول تأثير “كورنا” على المدينة وعلى شكل الفضاءات العامة فيها.
الكثير من تلك الدراسات تراهن على أن الشكل العمراني سوف يتغير وأن مفهوم المدينة من حيث إتاحة الفرصة للتجمعات البشرية سوف يكون حذراً جداً.
ويبدو أن فكرة “المدينة الإنسانية” التي يفترض أن تشجع البشر على التفاعل مع الفضاء العام والتجمع والتعبير عن النشاطات الإنسانية بوضوح في فضاءات المدينة بدأ يتحول إلى مفهوم حذر للغاية، إذا لم يصبح مفهوماً مختلفاً. وبالطبع فأنا لا أقول أن الفضاء العام سوف يختفي أو يفقد وظائفه لكنه سوف يصبح فضاء أكثر حذراً من السابق وقد يصبح غير مرحب ويشجع على التباعد.
العلاقة الأزلية بين الإنسان والعمران في طور التحول ويظهر هذا من آراء المختصين في هذا المجال الذين يرون أن “التباعد الاجتماعي” سيصبح جزءاً من ثقافة الشعوب في المستقبل. قد يكون هذا التباعد ليس بالصورة التي نراها اليوم مع تفشي هذا الوباء الكوني لكن دون شك سيكون هناك معايير مختلفة تعيد تعريف “متلازمة الإنسان والعمران”.
ما لفت نظري في الأيام الأخيرة هو زيادة عدد المصابين بالفيروس في المدن السعودية نتيجة لتكدس العمالة في مناطق غير مخدومة وأحياناً صعب الوصول إليها ومراقبتها. ورغم أن هذه الظاهرة قديمة وتناولها العديد من الزملاء في مقالات ودراسات سابقة، إلا أن البلديات لم تعر تلك التحذيرات أي انتباه. ولأن المكون العمراني له طاقة محددة لذلك يصبح هشاً ومريضاً عندما يتم تجاوز هذه الطاقة، وهذا ما حدث بالفعل. لا بد أن نعترف أن العمران يستجيب للضغوط الاقتصادية بشكل مباشر وأن ظاهرة تكدس العمالة هي نتيجة لهذه الضغوط، ومع ذلك فإن هناك مناطق كان التكدس فيها نتيجة لتراكم مجموعة من القرارات التي لم تتخذ سمحت لمخالفي الإقامة ببناء مستعمرات شكلت أحياء عشوائية في مدن رئيسية مثل الرياض ومكة وجدة والمدينة المنورة. وهذا كان متوقعاً كون الطبيعة البشرية قائمة على الاستقطاب الاثني والثقافي الذي يحفز مجموعة من الناس المتشابهين ثقافياً واقتصادياً للتجمع في مكان واحد.
ويبدو أن الثقافة العمرانية بعد جائحة كورونا تستعد لتحديات جديدة تتركز بشكل خاص في منهجية إدارة المدينة التي تساهم بشكل أو بآخر في خلق “مدن مريضة” تظهر أمراضها بقوة أثناء الأزمات. شخصياً كنت آمل أن يتطور كود بناء خاص بمساكن العمال في مدننا، ورغم أن وجود أعداد هائلة من العمالة يعتبر مرضاً اجتماعياً وعمرانياً في حد ذاته يصعب وجود حلول له، إلا أن التعامل مع المشكلة بذكاء وتطوير القدرة على احتواء أي أزمة تنتج عن وجود هذه العمالة سواء صحياً أو أمنياً يعتبر أمراً ملحاً. هذه الإشكالية ستظل تمثل توتراً بين ما تدعو له مفاهيم أنسنة المدينة وبين الضغوط الاقتصادية التي تدفع بأصحاب الشركات البحث عن مساكن ذات تكلفة قليلة. المعادلة الاقتصادية تجهض دائماً كثيراً من جهور أنسنة العمران وتجعل تلك الجهود جزئية ونوعاً من التجمل لا أكثر ولا أقل.
على أنني لا أريد أن أحصر التحول في متلازمة الإنسان العمران في تغير مفهوم الفضاء العام واتساع مجال التباعد الاجتماعي أو في الضغوط الاقتصادية التي صنعت وقد تصنع أمراضاً عمرانية متعددة، بل إن كثير من المفاهيم المرتبطة بكيفية التفاعل مع العمران سوف يصيبها العديد من التحويرات، خصوصاً فيما يتعلق بالعمل والتعليم عن بعد وظهور أنماط جديدة للحياة قد لا تتطلب الحركة داخل المدينة بقدر ما تتطلب استخدام وسائل الاتصال الفائقة التطور.
هل ستعزز هذه الأنماط الحياتية المتوقعة من التباعد الاجتماعي وهل ستصنع عزلة قد تتسع في المستقبل بين الإنسان والفضاء الخارجي؟
كثير من الزملاء الذين أتقاطع معهم حول العالم يرون أن علماً عمرانياً جديداً يجب أن يتطور بعد كورونا، بل يجب أن نبدأ الآن في رصد الظواهر ودراسة ردود الفعل الإنسانية تجاه المدينة وأوجه الخلل التي تعتري البشرية وتجعلهم خلال أيام معدودة عاجزين أمام فيروس لا يرى بالعين المجردة، ولماذا لم يتم اتخاذ الاحتياطات اللازمة مسبقاً رغم الكثير من التحذيرات؟
يؤكد البعض على أهمية أن يكون هذا العلم الجديد مبادرة من مدارس العمارة والتخطيط ومراكز البحوث العمرانية في جميع أنحاء العالم فلأول مرة في العصر الحديث تحدث ظاهرة يتوقف النشاط الإنساني بسببها على المستوى الكوني.