فلا يوجد مثلاً بنية ثقافية معمارية تشابه بنية النقد الأدبي التي تحمل جذوراً وتقاليد قديمة تتمثل في الأمسيات التي تقيمها الأندية الأدبية، رغم أن العمارة يطلق عليها “الموسيقى الجامدة” وهي أم الفنون وبينها وبين الشعر والأدب وشائج عميقة لكنها لم تحظَ، للأسف، بالاهتمام الكافي، لكن يبدو أن “كورونا” غير هذه المعادلة
شهران مرا على تصاعد الثقافة المعمارية السعودية، فلم أشهد في حياتي هذا الكم والنوع والعمق في المحاضرات والمساجلات بين المهتمين بالعمارة في المملكة، حتى إن البعض صار يقول إننا نعيش “يقظة معمارية سعودية”.
لقد شارك في هذه المساجلات عدد كبير من الزملاء خارج المملكة لكن المحور الأساسي كان هنا في قلب الجزيرة العربية حيث تشكل حراكاً فكرياً “غريباً” في تدفقه” و”باهراً” في كمه وكيفه وعدد المشاركين فيه، فكأن هؤلاء ولدوا فجأة. قد تكون العمارة كمحرك ثقافي جديدة على المجتمع السعودي، فلا يوجد مثلاً بنية ثقافية معمارية تشابه بنية النقد الأدبي التي تحمل جذوراً وتقاليد قديمة تتمثل في الأمسيات التي تقيمها الأندية الأدبية، رغم أن العمارة يطلق عليها “الموسيقى الجامدة” وهي أم الفنون وبينها وبين الشعر والأدب وشائج عميقة لكنها لم تحظَ، للأسف، بالاهتمام الكافي، لكن يبدو أن “كورونا” غير هذه المعادلة.
من الواضح أن الثقافة تحتاج إلى الدافع أولا وتحتاج كذلك إلى التفرغ ويبدو أن الدافع والتفرغ سنحا في ظل جائحة كوفيد 19 التي جعلت الكثير من المهتمين يساهمون وبشكل غير مسبوق في محاضرات افتراضية صار يحضرها عدد كبير من مناطق ودول مختلفة خصوصا الشباب منهم، وهذا في حد ذاته قد يعطي بعض الاطمئنان على المستقبل.
هذا الحضور المتميز لم يكن متاحا في السابق وأذكر أن بعض المحاضرات المهمة لم يكن يشارك فيها إلا عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد، فما الذي حدث على وجه التحديد؟
لا اشك أن الدافع لصناعة الثقافة موجود لدى الكثير من المثقفين، وربما عدد كبير من الناس يتوق إلى بناء منظومة معرفية تعينه على الحياة، لكن الجميع لم يكن يملك الوقت للمشاركة، وربما لم تكن الثقافة أولوية بالنسبة للكثير منا لذلك لم تتشكل ظاهرة واضحة تدعم الفعل الثقافي طيلة تلك السنوات لكن “كورونا” غيرت من هذه المعادلة وربما شكلت ظاهرة ثقافية غير مسبوقة.
على أن السؤال هو: هل سيستمر هذا الاهتمام، بعد أن بدأت بوادر العودة إلى رتم الحياة السابقة المتسارعة التي يطغى فيها الجري وراء المعاش على ما سواه؟ هذا السؤال على وجه التحديد أثاره العديد من الزملاء خلال أسبوع العيد، فقد كان متوقعاً أن العودة إلى مكاتب العمل وشيكة، فماذا سيحدث لكل هذا الزخم الثقافي الذي تصاعد خلال الشهرين الأخيرين وماذا يجب علينا أن نفعل حتى لا نخسر هذه المساحة المضيئة في حياتنا. أهم الدروس التي تعلمناها من هذه التجربة هو أن أي عمل جاد يحتاج إلى مهتمين جادين يملكون الوقت والمثابرة كي يجعلوا من هذا العمل ظاهرة تراكمية تربط الأجيال المتعاقبة.
فإذا ما اجتمع الناس على شيء حتى لو اختلفوا في تفاصيله فلا بد أن يثمر عن فعل مؤثر يغير الواقع. إذا جوابي على الزملاء هو: يجب علينا الموازنة بين ما نريده لأنفسنا (العمل) وما نريد لمجتمعنا (الثقافة) وهذه الموازنة تحتاج إلى إيمان أولاً وقبل كل شيء.
والذي يظهر لي أن الثقافة الجديدة بحاجة إلى أدوات جديدة، وأن المحاضرات المباشرة قد تكون غير مجدية في ظل هذا التسارع الحياتي، وربما فتحت هذه الجائحة باباً كان موارباً، وكنا نتردد في اقتحامه. فكما أن كورونا سيغير من مفاهيم التعليم المستقبلي وقد يؤدي إلى ظهور “الحرم الجامعي الافتراضي”، وهو أمر ليس بغريب فالجامعات الإلكترونية موجودة والتعليم عن بُعد أخذا في الانتشار حتى قبل الجائحة لكنه الآن أصبح “ممأسس” و”مشرعن” ومن كان يقف ضد هذا التوجه، وأنا واحد منهم، أصبح متردداً في موقفه وأكثر تقبلاً للفكرة بل ويبحث عن أدوات أكثر فاعلية تعينه في المستقبل على التواصل مع طلابه افتراضياً.
إذاً نحن أمام ما يمكن أن نسميه “الثقافة الافتراضية” التي لا تتطلب الحوار المباشر، وإن كانت البرامج الحاسوبية جعلت من الحوار شبه مباشر، وبالتالي فإن فرص تطور أفكار جديدة باتت متاحة أكثر، فقد كان أكثر ما ينقصنا هو “الحوار” الذي يقول عنه الروس إن منه يخرج النور، والآن أصبح الحوار متاحاً.
أتمنى ألا يتراجع هذا الزخم الثقافي وألا تهدأ النفوس والعقول التي تتوق إلى المعرفة، وأن يستمر الحوار والسجال كي يقود إلى جدل معرفي يصنع أفكاراً عظيمة تنتشل الأمة من سباتها العميق.