قلب المدينة التاريخي هو قلب المدينة بشكل مجازي والقادر على ضخ الحركة والحيوية في جميع أجزائها وخسارة هذا الجزء المهم لا يعني فقط خسارة التاريخ والذاكرة المكانية بل هو خسارة فادحة لهوية المدينة ومستقبلها ..
كنت متفائلاً قبل عدة أشهر وأنا أتحدث مع فريق من البنك الدولي حول ما تحتويه كثير من المدن السعودية الكبيرة والصغيرة منها على تراث عمراني في قلبها التاريخي، وقد اتفقنا في ذلك الوقت على تطوير معايير لتحديد الإجراءات والنشاطات التي يجب اتخاذها لتحويل هذه المناطق التاريخية في قلب المدن إلى مناطق جذب سياحي لدعم الاقتصادات المحلية في مناطق المملكة المختلفة. كان من الضروري اختيار عدد من المدن التي كنت أتوقع شخصياً أنها تحتوي على تراث عمراني مميز (حسب المعايير التي وضعناها في مركز التراث العمراني الوطني في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني) وقد كان الاختيار بعد مناقشة مستفيضة مع الزملاء في المركز حتى تكون أمثلة الدراسة متنوعة وتمثل التراث العمراني الوطني والظروف الاقتصادية المحلية المختلفة في كل منطقة.
مفاجآت هذه الدراسة كانت متعددة وأعطتني تصوراً حقيقياً عما يمكن فعله للمحافظة على الأجزاء المتبقية من أوساط المدن التاريخية.
في البداية لا بد أن ألفت الانتباه أن إثارة المخاوف حول الضياع المتسارع للإرث التاريخي وسط المدن السعودية اليوم كانت مبادرة من قبل هيئة السياحة والتراث الوطني قبل عدة سنوات، التصور الموجود في الذهن حول تلك المدن ما زال مرتبطاً بصور ذهنية تختلط فيها العاطفة التاريخية الممزوجة بخيالات صور الحياة القديمة فيها والواقع العمراني الحقيقي الذي عليه هذه المدن الآن. أول صدمة تلقيتها من هذه الدراسة أن فريق الخبراء الدوليين وجدوا أن مدينة واحدة فقط من بين أربع مدن قاموا بمسحها ودراستها يمكن أن تحتوي على فرص مستقبلية لاستثمار وسطها التاريخي من الناحية الاقتصادية.
توقفت عند هذه النتيجة وطلبت من الفريق أن يقوم بمسح ودراسة مدن أخرى لفهم الأسباب التي جعلت الوسط التاريخي حالة تستدعي الاهتمام وتذكرت في نفس الوقت ما كان يثيره الأمير سلطان بن سلمان قبل أكثر من عقدين من الزمن حول الإرث التاريخي العمراني الذي كنا نخسره في ذلك الوقت بسرعة فائقة ومناداته المستمرة للاهتمام بهذا الإرث. ا
لواقع الذي نعيشة اليوم كان يمكن أن يكون أفضل بكثير لو أن تلك الرسائل الثقافية الوطنية التي كان ينادي بها الأمير وجدت الصدى الكافي.
النتيجة التي وصل لها فريق الدراسة في زيارته الأخيرة والتي قام فيها بدراسة مدينتين إضافيتين أن أحدهما يملك إمكانية التوظيف المستقبلي لوسط المدينة التاريخية أما المدينة الأخرى فلا حظ لها ومن خلال النقاش مع الفريق كانت النتيجة المهمة التي أكد عليها الجميع أن الوسط التاريخي في أغلب المدن السعودية موجود فقط كطرق وممرات وحدود وملكيات أما المباني والإرث المعماري فأغلبه قد فقد ولا يمكن استعادته بأصالته الحقيقية خصوصًا أنه لا يوجد توثيق منهجي لهذه المباني وأنه من الأفضل وضع سلم أولويات عاجل لتطبيق نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني على ما تبقى من المباني بدلاً من إضاعة الوقت في إعادة بناء ما فقد، كما يجب وضع قائمة متسلسلة تحدد درجة أهمية المبنى وكلما كان المبنى له أهمية كلما أعطي عناية أكبر. في اعتقادي هذه التوجهات يتبناها مركز التراث العمراني الوطني بدقة في الوقت الحاضر ويعمل على تطبيقها من خلال بناء قاعدة البيانات الوطنية في التراث العمراني.
بشكل عام اقتصادات المدن ترتكز بشكل أساسي على الأنشطة الإنسانية وغالبًا ما يمثل وسط المدينة التاريخي منبعاً لتنوع اقتصادي خلاق ومتجدد لا يؤثر على حدوده الجغرافية فقط بل يمتد لجميع أوساط المدينة فقلب المدينة التاريخي هو قلب المدينة بشكل مجازي والقادر على ضخ الحركة والحيوية في جميع أجزائها وخسارة هذا الجزء المهم لا يعني فقط خسارة التاريخ والذاكرة المكانية بل هو خسارة فادحة لهوية المدينة ومستقبلها وانطفائه يعني انطفاء المدينة ككل.