
إذا بقي مجال للاستثمار فأين يكون؟ هل ما زالت السوق واعدة هناك؟
بداية: إن ما تمر به السوق العقارية على كل حال لا يصنف من باب الكساد، فعوارض الكساد الرئيسة لا تنطبق هنا، ما زالت السوق تعج بالعروض، ولا يزال الطلب موجودا وسيظل موجودا؛ لكن السوق تواجه مواقف صعبة أولها وأهمها تغيرات رئيسة في تفضيلات المستهلكين وتوقعات بتغيرات أكثر، لم يستطع العقاريون أو المشتغلون في السوق العقارية التنبؤ بها بطريقة صحيحة على الرغم من التحذيرات التي سبقت وأن السوق حتما ستواجه تصحيحا شاملا. العقار سيظل مهما ومطلبا ملحا، وما حدث في السوق وما سيحدث لاحقا إنما هو استجابات متنوعة لهذه الرغبة الإنسانية الأساسية، من يريد البقاء في سوق العقار في المستقبل، ومن يريد أن يستثمر في السوق الآن فعليه معرفة توجهات المستهلكين لتلبية رغبة السكن.
فالسكن كما أشرت سيظل من الاحتياجات الأساسية لبني البشر، ولسنا هنا استثناء. لكن ما حدث في الطفرة العقارية الأخيرة هو أن كثيرا من المستثمرين قد استغلوا هذه الحاجة ولكن بطريقة غريبة، حيث تجاهلوها تماما، فتحولوا إلى المضاربات الرئيسة في الأراضي الخام أو حتى الأراضي المطورة ولكن دون تحويلها إلى سكن قابل للاستخدام والحياة فيه وفي منطقة يمكن العيش فيها. وباختصار فإن ما حدث كان يشبه التعطيش لهذه الحاجة، ومع الأسف لم تتدخل الجهات الحكومية لحل هذه المشكلة، بالذات، ولم تزل وزارة الإسكان متأخرة في الحل. هذا التعطيش أوجد كثيرا من فرص الربح السهل والسريع جدا، كما أوجد فرصة الدخول للسوق العقارية والخروج منها بسهولة وسرعة، ومع عدم وجود عوائق دخول تنظيمية فقد أصبحت السوق رأسمالية أكثر منها سوقا عقارية، بمعنى أن الهدف من السوق لم يعد إنتاج سلع سكنية تتناسب مع الطلب العام، بل فقط لنمو سريع لرأس المال. هذا التحول هو الذي قاد إلى تحول أعمق منه، فبروز السوق الرأسمالية في العقار جعلها هدفا سهلا للمصارف من أجل تسويق التمويل. وأيضا لم يكن الهدف من هذا التمويل هو دعم حاجة السكن الأساسية، بل من أجل الاستفادة من التعطيش في السوق وإيجاد إيرادات تتصف بالاستدامة، وقد أسهمت المصارف في تضخيم السوق من خلال استخدام الراتب كرهن، وبذلك لم تعد تهتم بمسألة السعر الحقيقي للعقار حتى وإن رهنته كإجراء احترازي. عندما وصلت المسألة إلى حدود تتجاوز قدرة المستهلكين على الشراء، ضعف الطلب تدريجيا، وتفاقمت المخاطر التمويلية ولهذا سعت مؤسسة النقد إلى فرض نسبة 30 في المائة كمقدم، وهذا أسهم أكثر في تراجع الطلب.
ما الذي يحدث الآن؟ ما حدث الآن هو انحسار لظاهرة تعطيش السوق بالتركيز على المضاربات، فالأراضي الخام مع قرار رسوم الأراضي البيضاء أصبحت مقلقة نوعا ما، ولهذا أظهرت التقارير تراجعا حادا في مبيعات الأراضي من هذا النوع، ومع ذلك فإن المشكلة الرئيسة في هذه القطاع العقاري لم تزل قائمة، فسهولة الدخول والخروج من العقار كأراض خام لم تزل تمثل جاذبا استثماريا كبيرا، ولهذا فإن فشل وزارة الإسكان في تطبيق قرار رسوم الأراضي البيضاء أو عدم جديتها فيه سيعيد المضاربات وبشكل محموم طالما يتم البيع والشراء في السوق بهذه الطريقة، من المهم استغلال الفترة الراهنة من خلال تطوير إجراءات أكثر صرامة في تبادل الأراضي البيضاء حيث يصبح الدخول والخروج منها أمرا يستغرق وقتا أطول، كما لابد من رفع تكلفة تداول هذه الأراضي الخام الكبيرة، وتحصيل بعض الرسوم الإدارية وهذا سيحقق أمرين معا، الأول ضمان إطالة مدة الدخول والخروج من العقار في الأرض الخام والثاني رفع تكلفة التداول.
القطاع الثاني، هو قطاع العمارات خاصة التجارية منها، هذا القطاع تراجع كثيرا في أسعاره، والسبب هنا يعود إلى انخفاض الإيجارات في القطاع التجاري خاصة في المدن غير التجارية أساسا أو التي لا تشهد حركة واسعة. المشكلة في قطاع المباني المكونة من مكاتب أو شقق، تعود أساسا إلى فترة الطفرة، فقد ارتفعت أسعار العقارات بشكل جنوني مع بقاء القدرة على دفع الإيجارات محدودة، ولهذا تناقصت العوائد في مقابل الاستثمار، فلم يعد الأمر مجديا اقتصاديا، ومع تراجع وتيرة الإنفاق الحكومي وأيضا ارتفاع الرسوم فإن من المتوقع استمرار ظاهرة تراجع أسعار هذا القطاع، وقد يكون من غير المجدي الاستثمار فيه إلا إذا حدثت تحولات رئيسة في أهم قطاع وهو قطاع شقق التمليك. من يريد الاستثمار في قطاع العمارات السكنية وتأجيرها عليه مراقبة التحولات في قطاع شقق التمليك، أي ارتفاع مبالغ فيه هناك سوف يقود إلى إشعال فتيل الإيجارات وتحول مهم في هذه القطاع. وعلى المدى القصير من الصعب حدوث ذلك خاصة مع وعود الميزانية الجديدة، لكن على المديين المتوسط والطويل فإن هذا القطاع سيظل مهما واقتناص الفرص فيه مع تحسن العوائد سيكون عملا مميزا.
القطاع الثالث، قطاع المنازل والفلل السكنية، أظهرت عديد من التحليلات تراجعات مهمة في هذا القطاع، والسبب حتى الآن غير واضح، لكن من المؤكد أن التطورات المهمة في قطاع شقق التمليك هي المحرك الأساس لهذا التراجع، وأيضا زيادة المعروض والتحولات الرئيسة في تفضيلات المستهلكين، لكن من المتوقع أن يستمر التراجع أكثر مع قرارات رفع رسوم الخدمات، فخدمة الفلل السكنية ستكون مكلفة، ومع تراجع التمويل العقاري، وارتفاع الأسعار بشكل عام فإن التراجع قد يكون حتميا هنا، ولا أتوقع حدوث تصحيح جذري، ذلك أن الطفرة الاقتصادية الماضية والظلال الرئيسة على الاقتصاد، والحماس الكبير نحو الإصلاح الاقتصادي كل ذلك يعني ببساطة تحولات عميقة في تفضيلات المستهلكين.
القطاع الأهم والقادم بقوة في نظري هو قطاع الشقق التمليك، فهذا القطاع لم يتراجع بحدة رغم كل الصعوبات التي تواجه السوق العقارية برمتها، والسبب غريزي أولا، فالحاجة للسكن ماسة جدا، خاصة بين قطاع الشباب الذين يشكلون نسبا مرتفعة وهناك طفرة أطفال مقبلة سيصبحون شبابا يريدون السكن الآمن، أضف إلى ذلك أن الاستثمار في شراء الشقق يحقق عوائد جيدة، وقد تستمر هذه العوائد في التصاعد مع مستقبل الأيام خاصة إذا تم رفع رسوم الخدمات التي ستوجد حتما تحولات عميقة في تفضيلات المواطن السعودي، والله أعلم.