6 يناير 2019
أصبحت المقولة المشهورة صراع الثيران والدببة في الأسواق المالية معروفة تماما بين الناس، خاصة المضاربين في سوق الأسهم، وهي تصنف المضاربين في السوق المالية إلى مندفعين في اتجاهين، الأول يرى التفاؤل، والأسواق ستنتعش والأسعار تتحسن، ولهذا يفرض أسعارا متفائلة، وبين متشائمين يرون الأسواق سيئة والأسعار متراجعة والسوق مدبرة، ومع ذلك فمن الصعب تصنيف المشترين على النحو نفسه، فقد يكون المشترون دببة أو العكس، وقد
يكون البائعون هم الدببة أو العكس.
تتوازن السوق إذا توزع المضاربون بين متشائمين ومتفائلين، بين بائعين ومشترين، لكن إذا زاد عدد أي طرف فإنه سيحسم اتجاه السوق من خلال تشكل نظرية القطيع، التي ستقود الجميع في الاتجاه الذي تريده. أعتقد أن الصورة نفسها تتكرر في جميع الأسواق الاستثمارية، ولأن السوق العقارية لدينا خصوصا تتمتع بمزايا استثمارية هائلة، خاصة في العقد الأخير، فالصراع بين الدببة والثيران موجود فيها أيضا الدببة متشائمة والثيران متفائلة، والسوق اليوم مستقرة لأنها لم تجد القطيع بعد.
القطيع يبحث عن السيولة دائما، ولن يتشكل قطيع ما لم يتحدد اتجاه السيولة أين، وحسم اتجاه السيولة يقع بين التفاؤل والتشاؤم في السوق العقارية، لكن هناك محددات أخرى في السوق يجب أن نأخذها في الاعتبار، أولها أن الاتجاهات الصاعدة المتفائلة وغلبة الثيران في الفترة الماضية قبل الركود كانت قد أتت من مصدرين الأول الضغط الإعلامي الكثيف على مشكلة الإسكان، الذي لقي صدى واستجابة واسعة من الحكومة حتى إنها شكلت وزارة خاصة لهذا الموضوع، ثم الدعم الحكومي الضخم للوزارة والصناديق الاستثمارية، والتوجيهات في تلك الفترة بتمويل الشقق من الصناديق الحكومية، وهو الأمر الذي تحول مع الوقت إلى موجة عارمة من بناء الشقق خاصة في المدن الكبرى، ثم تمت إضافة المصارف إلى التمويل بشكل منفلت تقريبًا، وبدون ضمانات سوى الراتب والسن فقط، وعلى أساس عدم تملك السكن إلا بعد الانتهاء من الأقساط، هذه السيولة الضخمة حسمت الموقف لمصلحة الثيران، واتجهت الأسعار بجنون إلى الأعلى، متجاهلة حقائق أساسية في السوق، أهمها حجم السيولة مهما ارتفع فهو محدود في السوق العقارية، ذلك أنها تمتص السيولة ولا تستطيع إعادتها بسرعة إلى السوق، بمعنى أن الخروج من العقار والتحول إلى السيولة ومن ثم العودة إلى العقار في دورة كاملة ليس ببساطة الأسهم.
والأمر الآخر، أن العقار يعتمد أساسا في تقييمه على العوائد وليس المضاربات، ولهذا فحتما ستصل العوائد إلى نقطة لا تفسر الأسعار، وهذا ما حدث في الأمرين معا، ومع ارتفاع حدة المخاطر هذه توجهت المصارف إلى التوقف عن التمويل المنفلت في السوق، كما أصبحت الدولة منشغلة بمشاريع الإسكان، وعاد الناس إلى المطالبة بالتمويل القديم من الصندوق، دون المنتجات التي يتم الإعلان عنها، وبهذا عادت السيولة إلى مرحلة ما قبل غلبة الثيران، وعاد الصراع إلى موضوعه الأساس، تفاؤل يقابله تشاؤم، لكن السيولة في السوق لم تحسم الاتجاه لتبدأ رحلة القطيع.
إذن فالحسم في المستقبل هو لاتجاه السيولة، هناك من يحاول الآن تشكيل فقاعة جديدة في السوق على أمل أن يتبعها القطيع، لكن المسألة ليست بهذه البساطة، إذا لم تتشكل سيولة هائلة من الحكومة هدفها هو تحرك السوق إلى الأعلى كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية مع الأزمة المالية، حيث تم اعتماد نموذج التيسير الكمي من أجل إيجاد فقاعة أصول جديدة لنزع فتيل الخوف الذي أصاب القطيع عمومًا، وقد نجحت، لكن الجميع قلق جدا من كون ذلك الحل مؤقتا والعودة إلى الأزمة لا محالة منها. لكن الموقف في المملكة مختلف، إذ من الصعب أن تستخدم الحكومة نموذج التيسير الكمي من أجل إيجاد فقاعة عقارية جديدة، خاصة أن الاقتصاد مستقر عموما ولا توجد أزمة مصرفية بسبب تراجع العقار، ولا أعتقد أنها ستكون إذا تراجع في المستقبل.
إذن فرص اتجاهات السيولة نحو دفع الأسعار إلى أعلى لم تزل غير متوافرة – منطقيا على الأقل – فالأمر يحتاج إلى سيولة مروعة من أجل ذلك، ولا أعتقد أن العقاريين قادرون على توفيرها للسوق ككل، خاصة أن معظمهم متورط في السوق ولا يستطيع الخروج منها، لكنهم قد يستخدمونها من أجل إيجاد موجة تفاؤل من خلال صفقة أو أخرى هنا، أو هناك أو حتى مزاد، لكن ذلك لن يولد اتجاها عاما لدى الناس، فمثل هذه التصرفات لا توجِد سيولة حقيقية، تبقى العوائد هي المصدر الوحيد لتوجيه السيولة في العقار حاليًا، مع ما تدفع به الحكومة والمصارف نحو التملك وفقا للأسعار الحالية، وأي ارتفاع سيحبط هذه المحاولات تمامًا.
التشاؤم في السوق لا يجد زخما أيضا، بحيث يولد سيولة ضخمة عند البيع، وإذا كنت أقول إن “القيطع” يبحث عن السيولة فالسيولة المتوافرة من البيع إذا تشاءم الناس من العقار لا تجد مصادر للعوائد القوية خارج العقار، ولا تجد أمانا أيضا، حتى الذهب متذبذب بشكل مقلق في السوق، فلم تزل نظرية العقار مخزن للثروة صحيحة وفعالة حتى الآن، وهي التي تزن السوق، ولهذا فإن المتشائمين لم يستطيعوا تشكيل ضغط على العرض، من أجل زيادة البيع، فالناس تجد في العقار ملاذا جيدا للثروة، وأيضا تفسيرا نفسيا مقنعا عند امتلاك أي عقار، ولهذا فإن شعور البائعين بالتهور عند البيع يكبح جماح الرغبة لديهم في البيع، خاصة أن المشترين متشائمون من العوائد التي لا تبرر الأسعار، كما أن العقار فقد زخمه الاستثماري، فالخروج منه ليس بسهولة الدخول إليه.
من سيحسم الصراع في السوق العقارية؟ في المدى القصير لا أتوقع حدوث تغييرات في الموقف العام، وعند الأسعار الحالية سيظل المتشائم والمتفائل كل في مكانه، وسيظل العقار عند الأسعار الحالية، لكن في المدى المتوسط فإن التضخم سيجعل السيولة صعبة والأمور أكثر سوءا، فالقدرة على شراء العقار ستنخفض يوما بعد يوم، ومع ثبات عوائده بل نقصانها وفقا للفائدة السائدة، فلن يستطيع التفاؤل حسم الموقف نهائيا، ويبقى اتجاه السوق مرهونا بيد المتشائمين مع حدوث قفزة في سوق الأسهم أو في أي وعاء استثماري جديد، أو في تغيرات اجتماعية غير متوقعة وغير مقروءة الآن.