بداية يجب أن نعترف بأن لدينا ضعف وعي تجاه مفهوم الديون أو ما يسمى الائتمان، حيث إن مفهومنا للديون ينطلق من نوع واحد من الديون وهو “القرض الحسن” الذي يقترضه الإنسان لحاجة مالية ألمت به، وتجب معالجتها عاجلا، والقرض الحسن عادة ما يكون قرضا استهلاكيا يتحمله الإنسان المقترض بالكامل دون أي ضمان آخر سوى قدرته على السداد من دخله الشهري، ولذلك نقول إن هذا النوع من الدين يعتبر حملا على ظهر المستدين لأنه لو فشل في سداده فإن المقرض سيتخذ جملة من الإجراءات تجاه الشخص المقترض بذاته بسبب عدم وجود ضمانات يمكن اتخاذ إجراءات حيال حجزها وبيعها لاستيفاء الدين.
ديون شراء المساكن تختلف تماما عن ذلك، فالتمويل العقاري يقوم على فكرة مختلفة عن التمويل الاستهلاكي، حيث إن العين العقارية (منزل، بناية مستأجرة) تعتبر الضمان الأساسي للدائنين، وبالتالي فإن معظم الدين ليس على كاهل المقترض بل على كاهل الضمان وهو “العين العقارية”، بل في كثيرا من الأحيان عند عجز المقترض عن السداد يحصل على الفارق بين سعر البيع والدين المتبقي عند بيع العين العقارية لمصلحة الجهة المقرضة، ولذلك تحرص الجهات التمويلية على تمويل المساكن المطورة من مطورين عقاريين موثوقين في مواقع تنمو سعريا لتكون العين العقارية عالية الجودة متنامية القيمة تصلح كضمان للقرض العقاري طويل الأجل لتتمكن من بيعها بسعر عال يغطي ما تبقى من القرض في حال عجز المقترض، والزائد يعطى للمقترض.
أيضا تقوم فكرة التمويل العقاري لشراء المساكن على مفهوم “رسملة الإيجار”، حيث عادة ما يكون الراغب في شراء مسكن من خلال التمويل العقاري بضمان دخله والعين العقارية مستأجرا لمسكن يؤويه وأسرته بمبلغ شهري أو نصف سنوي يذهب سدى بمرور الزمن، وبالتالي حال شرائه مسكنا بنظام التمويل العقاري سيقوم بتحويل الإيجارات الشهرية أو نصف السنوية إلى أقساط تمكنه من امتلاك المسكن بمرور الزمن، وبالتالي فإن المسكن من خلال نظام التمويل العقاري حول المسكن إلى وعاء ادخاري إضافة إلى كونه مأوى مملوكًا وليس مستأجرًا.
قد يقول قائل إن فائدة القروض قد تزداد بمرور الزمن بسبب التضخم أو ارتفاع الفوائد، وأقول وإن كان ذلك حقيقيا فإن التضخم في الإيجارات أعلى من تضخم الفوائد المصرفية بمرور الزمن وهو بمتوسط 20 إلى 25 سنة مدة سداد القرض العقاري، وأي مواطن يمكنه ملاحظة نسبة ارتفاع الإيجارات في السنوات الـ 20 الماضية مقارنة بنسبة ارتفاع الفوائد، ويمكن له أن يتوقع ارتفاعها في الـ 20 عاما المقبلة، وبالتالي فإن التمويل العقاري هو الحل الأمثل للتمكن من شراء المسكن الملائم في مقتبل العمر، كما أنه الحل الأمثل لرسملة الإيجارات لكيلا تذهب سدى دون فائدة، وكلنا يعرف أن كثيرا من المستأجرين أمضى أكثر من 20 عاما يدفع إيجارات بلغت مئات الآلاف وتجاوزت المليون ريال دون أن يمتلك من المسكن المستأجر ولو نسبة بسيطة.
التمويل من خلال القروض بجميع أنواعها يعتبر أكسجين الأسواق وبقدر توافر بدائل تمويلية ملائمة لاحتياجات المقترضين للاستثمار أو التوسع في الاستثمارات أو لشراء المنتجات بجميع أنواعها تنتعش السوق وتنمو، ولذلك حرصت الدول على توفير بدائل تمويلية متنوعة من مصادر متعددة لعناصر جميع القطاعات السوقية من منتجين، ومشترين، ووسطاء لتنمو وتزدهر وتحقق أهدافها التنموية على المستويين الجزئي والكلي.
وبما أن معالجة المشكلة الإسكانية تقوم على استراتيجية دعم العرض وتمكين الطلب وكلاهما يتطلبان آليات تمويلية وفق معادلة تحقق الربح للجميع، فالمطور يستطيع أن يطور مساكن ويتوسع من خلال التمويل ويحقق أرباحا معقولة وفق معايير الأرباح المتعارف عليها في هذا القطاع وبما يتناسب مع المخاطر الاستثمارية التي يتحملها، والمشتري يستطيع أن يشتري المسكن الملائم في مقتبل العمر بضمان دخله والعين العقارية ليستقر ويرتاح ويرسمل الإيجارات التي تذهب سدى إلى غير رجعة، والممول يحقق أرباحا معقولة وفق المعايير القياسية في الأسواق المالية سواء كان ممولا مستثمرا من خلال السوق المالية أو ممولا يعتمد على مدخرات العملاء كالمصارف.
وبكل تأكيد لا يمكن الاعتماد في عمليات تمويل السوق العقارية على صندوق التنمية العقارية وحده لتغطية القروض العقارية لكونه صندوقا حكوميا يعتمد على ما تضخه الدولة فيه من أموال، كما يعتمد على الإيرادات التي تأتيه من سداد المقترضين، وكلاهما لا يكفي بحال من الأحوال في توفير التمويل اللازم للمشترين فضلا عن المطورين، ولقد أعلن الصندوق العقاري أن موجوداته المالية وما يحصله من المواطنين لن يمكنه من تمويل قوائم الانتظار الحالية إلا بعد 40 عاما، وهذا بطبيعة الحال غير مقبول، وبالتالي لا بد من التوجه للمؤسسات المالية وتحفيزها للمشاركة في عمليات التمويل، وهذا ما تحقق من خلال القرض المدعوم.
القرض المدعوم ضرورة وليس خيارًا، ومن يطالب بالإقراض المباشر من الصندوق كما هو في السابق خصوصا من أصحاب الطلبات القديمة إنما يطالب بتمكينه وعدم تمكين المواطنين الآخرين، وواقع حاله يقول حلوا مشكلتي ولا دخل لي بالمشكلة الإسكانية، وهذا أمر غير مقبول في ظل المعطيات الحالية، وفي ظل مهام وزارة الإسكان وصندوق التنمية العقارية المنوط بهم حل المشكلة الإسكانية وليس حل جزء منها.
ختاما من مهام وزارة الإسكان زيادة نسبة تملك المساكن، وتيسير حصول المواطن على سكن ميسر تراعى فيه الجودة ضمن دخله في الوقت المناسب من حياته، وتشجيع مشاركة القطاع الخاص في دعم نشاطات وبرامج الإسكان المختلفة، ولا شك أن القرض المدعوم إحدى أهم الآليات التمويلية التي ستمكن المواطن من شراء المسكن بمشاركة القطاع الخاص لرفع نسبة التملك المستهدفة في “رؤية 2030”.