لكل مدينة طابعها.. ليس فقط من حيث الشكل والتخطيط والعمارة وتوزيع فراغاتها العامة، بل كذلك بالطاقة والإحساس الذي ينبع من سكانها.
شتان بين مدينة لندن التي ما أن خرجت لتمشي على الرصيف حتى تحس أن جموعًا من الناس حركتك معها وكأنك تنجرف في سيل وبين مدينة مثل فيينا تجد فيها الكثيرين الذين يأخذون وقتهم ليمشوا بروية وإن كان منهم مستعجلون كذلك.
العواصم والمدن الكبيرة يأتي جزء كبير من إحساسها من خلال حركة الناس من مكان إلى آخر، وبينما أتأمل بعض الأفراد يختفون تحت الأرض لركوب المترو وآخرين يمشون بكل نشاط إلى وجهتهم أتساءل عن وجهاتهم والمسافات التي قطعوها وما زالت أمامهم. هل حركتهم لسبب شخصي أو للعمل؟ وما القصص الفردية التي تشكل دوافعهم؟
و لكن ماذا لو رأينا هذه الرحلات الفردية على خريطة وتابعناها؟ ماذا لو وضعنا مئات الآلاف من المسارات فوق نفس الخريطة وبدأنا نرى أنماط الحركة وأوقات الذروة في كل مكان.
دخول وخروج الناس من الضواحي إلى المدينة كحركة المد والجزر الذي يسبق ويلحق فترة الدوام الرسمي ومجموعة أقل لها جدول مسائي ينتشرون كأفراد كلما اقتربوا من وجهاتهم.
إن حركة الأفراد في المدن من أساسيات ما يحدد طابعها ومن الأمور التي يجب أن تحظى باهتمام كبير لدى مخططي المدن وحكوماتها المحلية.
صممت غالب المدن السعودية في فترة هيمنة السيارة واستبعدت فكرة المواصلات العامة آنذاك تماما لدرجة أن فكرة ظهور شبكة مواصلات عامة أصبحت بعيدة التوقع، وإن سلمنا من تبعات هذا القرار التخطيطي لفترة، وإن كنا تحملنا جزءًا كبيرًا من الانتظار في تنقلاتنا اليومية وأضعنا أسابيع وأشهرا في صناديقنا الفولاذية إلا أن الوقت قد حان فعلا أن نعيد النظر تماما في كيفية تنقلنا.
في الرياض قطع مشروع المترو شوطًا كبيرًا بينما في جدة خطط متتالية تمت مراجعتها دون تنفيذ بعد، أما في المنطقة الشرقية فما زلنا ننتظر حتى الخطط الواضحة.
إن التقنية الحديثة والكم الهائل من المعلومات الذي ينتجه الأفراد (user generated data) من الكنوز التي يمكن استخدامها في اتخاذ القرارات التي تتناسب مع مشاكلنا.
فكل شخص يحمل هاتفًا ذكيًا يعتبر مشاركًا في إنتاج معلومات دقيقة عن موقعه وسرعة الحركة وأماكن الانتظار والازدحام وغيرها الكثير.
فلماذا ننتظر لتفاقم المشكلة حتى نفكر بحل ومن ثم يكون تنفيذه متأخرًا لدرجة أننا انتقلنا لمشكلة أكبر؟ إن إدارات التخطيط يقع على عاتقها جزء كبير من المسؤولية في تلمس الاحتياجات قبل أن تتحول إلى إشكالات.
في الأجندة الحضرية الجديدة التي تم توقيعها في مؤتمر (Habitat III) في كيتو بالإكوادور عام ٢٠١٦ هناك توجه قوي لتعزيز شبكات وخدمات المواصلات العامة وتوجيه بتوافق السياسات والتصاميم الحضرية لتوفيرها وذلك بهدف الاقتراب أكثر من المدن المستدامة.
فلو سألنا أنفسنا ما طابع مدننا الآن وماذا نود أن تكون عليه نستطيع أن نبدأ بتلمس بعض طموحاتنا، علينا أن نفهم أنماطنا في التنقل ونتعرف على ما هو قابل للتغيير وعلينا أن نستفيد من تجارب غيرنا دون أن نلغي ما يميزنا؛ ولكن قبل ذلك لنفكر بجميع الإمكانات لدولة شابة حالمة وطموحة لا ترضى بالقليل فنحن نريد ونستاهل الأفضل.