أمر بديهي بأنه لا يوجد لأحد موقف من وزارة الإسكان، فهي جهاز حكومي أنشئ لخدمة الجميع، بينما ساحة النقاش بين مؤيد ومعارض للحلول التي تقدمها الوزارة هي ما يحرك الرأي العام. وهذا جانب صحي يصب في مصلحة المجتمع والاقتصاد، لأنه يكشف مجاناً للوزارة الجوانب السلبية والإيجابية لأعمالهم حتى تؤخذ بعين الاعتبار
ويتم سد الثغرات ومعالجتها مبكراً حتى لا تتحول إلى كوارث مستقبلية، وهو لا يقلل من جهود الوزارة، ففي النهاية من سيستفيد من برامجها أو مما يقدم بالسوق من منتجات هو من سيتحمل تبعات أي خلل قد لا يلتفت له مسبقاً في ظل سرعة تقديم الحلول لأحد أهم الملفات الاقتصادية محلياً.
فالوزارة أكدت في أكثر من مناسبة أنها تهدف بمجمل أعمالها «لتوفير سكن ميسر بسعر مناسب» كخلاصة لإستراتيجياتها، لكن هل ذلك سيتحقق بالحلول أن تطرح جميعها أم بترتيبها وفق الأولويات التي تصل لهذه النتيجة؟ ولكن يبقى الجواب على السؤال الأهم: لماذا يتأخر تملك المواطن للسكن؟ بأنه يكمن في صعوبة توفير قيمته الباهظة، فلو كان بمتناول شريحة كبرى من المجتمع لما كان هناك ملف لمشكلة الإسكان ولا حتى تم التطرق له، فمن خلال فهم واستيعاب تلك المصاعب يمكن أن تبنى الحلول، فالمشكلة من أساسها اقتصادية، تكمن في ضعف العرض بسبب الاحتكار للأراضي أولاً، وببطء اعتماد المخططات، وبعدم وجود سوق منظمة للتمويل منذ فترة طويلة.. إلخ من تلك الأسباب المعروفة، ولكن هل ما نسمعه من قرارات تصل بنا إلى سكن ميسر بسعر مناسب؟
من المهم النظر بداية إلى سرعة نقد بعض لمن يطرح راياً يظهر سلبيات بعض القرارات وأثرها مستقبلاً على الاقتصاد، فما هي الأهمية أو المصلحة لأن تتم محاولة تهميش أو تمييع آراء توضح المخاطر والسلبيات لبعض البرامج والقرارات والإجراءات، بل يجب مناقشتها لاستيعاب وتدارك أي مخاطر يتم طرحها لأن المصلحة للجميع بأن يتم تحجيم المخاطر وتقليل آثارها إن وُجدت، فكل الآراء لها فائدة كبيرة بمعالجة ملف الإسكان، وهي ليست وصاية أو تسعى للتأثير على أحد، فالمواطن يعي ويعرف ما يريد ويستأنس بكل الآراء ليتخذ القرار الصحيح والمناسب له. وبالعودة إلى قياس الحالة العامة لمشكلة الإسكان فإن ضعف نسب تملك السكن المنخفضة يجب أن تعالج من خلال إزالة الأسباب الرئيسة لها التي أدت إلى غلاء الأسعار، فعدم التركيز على زيادة العرض من الأراضي والمنتجات السكنية بمختلف الإجراءات التي تسهم بذلك يقلل من أهمية أي معالجات أخرى تطرح حالياً لا توفر بيئة تعالج مشكلة العرض للمنتجات السكنية، فلا يمكن رفع الدخل ليتناسب مع الأسعار لأنه ليس حلاً مخصصاً لتملك السكن، بل هو يأتي ضمن إطار خطط اقتصادية لها أبعاد كبيرة، كما أن الدخل ليس مشكلة لتملك السكن لأن من ارتفع هو أسعار العقار ليصل إلى أكثر من عشرة أضعاف الدخل السنوي للمواطن، أما كون التمويل العقاري لا يمثل إلا نحو 2 بالمية من الناتج المحلي المقدم من البنوك التجارية فهو رقم مضلل، لأن هناك تمويل مقدم من الصندوق العقاري بلغ 255 مليار ريال ما تم صرفه و331 مليار ريال ما تم صرفه اعتماده منذ تأسيسه قبل نحو 40 عاماً، أي أننا سنتجاوز بهذه الأرقام ما يقارب 15% من الناتج المحلي بخلاف من يقترضون من مؤسسات تقسيط لسلع وغيرها ويبيعونها لأجل تغطية تكاليف شراء مسكن، وهي أرقام غير معروفة أو محددة، أما إذا أبعدنا إيراد النفط من الناتج المحلي فإن نسب القروض العقارية ستتجاوز 30 % من الناتج المحلي غير النفطي، يضاف إلى ذلك بأن السوق التمويلية أساساً لم تنتظم بالشكل الهندسي المالي الكامل حتى يتم معرفة حقيقتها والبناء على أساس ذلك لبرامج تمويلية مناسبة تكون بمستويات تتناسب مع القيمة المستحقة لكل عقار وكذلك مناسبة لدخل الفرد.
وكذلك فإن ما يطرح من مقارنات مع دول لديها حجم إقراض عقاري كبير ما هو إلا تسطيح بالمقارنات، لأن تفاصيل ما يتم بتلك الدول ونوعية اقتصادها وتنوعه تسقط أي مقارنات معهم كبعض المقارنات التي تنشر وتقارننا مع سوق التمويل بأميركا وأستراليا وكندا وبريطانيا دون النظر إلى طبيعة تلك الاقتصاديات والأسعار فيها والدخل، وكذلك الأنظمة والتشريعات والحلول المبتكرة وجودة صناعة أسواقها العقارية وانفتاحها والعديد من الاختلافات بيننا وبينهم، فهل اقتصادياتهم تعتمد على النفط والإنفاق الحكومي كما هو لدينا، وهل لديهم فواتير دعم ضخمة تقدم من الحكومة كما هو في اقتصادنا؟!
إن الأمر الموجع بكل ما يطرح من حلول تغيب عنها على الأقل بما يتم شرحه من بيانات ومعلومات رسمية الآثار المترتبة على الفرد مستقبلاً، وهل سيواجه تعثراً محتملاً في حال اقتطع من دخله ما يفوق 40% وحتى مستويات 65% ولسنوات طويلة، فلا يمكن مقارنة هذه النسب بما يقتطعه صندوق التنمية العقاري عند 1600 ريال شهرياً كحد أقصى، فهي أقل من متوسط أي إيجار يدفعه المواطن حالياً، فقرض الصندوق الذي يصل بسقفه الأعلى إلى 500 ألف ريال يعد مبلغاً جيداً لو كانت أسعار العقار متوازنة وبقيم عادلة، لأن مساحة المملكة ضخمة والكثافة السكانية نحو 15 نسمة في الكيلومتر مربع الواحد، وهي قليلة وتعني أن الأسعار للأراضي تحديداً يجب أن لا تكون بمستوياتها الحالية بل أقل بنحو 70% إذا ما نظرنا لمساحات المدن لدينا الكبيرة وطبيعتها المنبسطة إجمالاً والمساحات الشاسعة البيضاء فيها. فهذه الحقيقة تشوه وتستبعد من الحسابات بالآراء التي غالباً ما تحث على انتهاز أي برنامج تمويل للاقتراض والشراء، أي اعتبار للتكاليف المرهقة ومدتها الطويلة وقيمة العقار بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، وهل تتناسب مع سعره الحالي، فالقول أنك ستمتلك سكناً ولا يهم ما تدفعه بقيمته من خلال «قرض» هذا رأي عاطفي لا ينتج حلاً حقيقياً للمواطن، لأنه سيعمل لما بين 40 إلى 70% من أيام الشهر فقط ليسدد قرضه العقاري، فإذا كان المتوسط المقبول للاستقطاع نحو 30% وأقل هو المعيار فإن أي زيادة عن ذلك ستشكل عبئاً حالياً، وسيزداد مع ارتفاع تكاليف المعيشة مستقبلاً عندما يزداد عدد أفراد الأسرة وطلباتها.
فالحلول الإسكانية الحالية لا تتماشى مع التحولات في الاقتصاد الوطني المنتظرة، فهناك برامج تخصيص في قطاعات التعليم والصحة وبعض الخدمات سترفع من تكاليف المعيشة بخلاف إعادة هيكلة الدعم للطاقة والمياه والوقود والاتجاه لتقليل أثر النفط بإيرادات الخزينة العامة، فالمتوقع هو ارتفاع تكاليف المعيشة، والدليل أن أول شهر من السنة الحالية وبعد رفع أسعار الطاقة ارتفع التضخم للضعف تقريباً لمستوى 4.3% بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والوقود والمياه، وذلك بحسب ما أوضحته هيئة الإحصاءات ولن تعالج هذه الآثار في وقت قصير. وإذا كان الرأي السائد بأن هذه الخطوات لها أهمية إيجابية على المالية العامة ورفع كفاءة الاستهلاك، فإن برامج الإسكان يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذه المتغيرات لتقدم منتجات سكنية بأسعار مناسبة لا تستقطع أكثر من ثلث الدخل من خلال منتج سكني متنوع وتمويل مريح لا يضغط على دخل الفرد ويساعده على تملك السكن دون أن يشكل عاملاً سلبياً على دور الفرد بالاقتصاد من خلال إنفاقه الاستهلاكي المهم لتعزيز النمو الاقتصادي.
لا يمكن اعتبار ملف الإسكان مشكلة مستعصية بسبب أن الحلول كثيرة ومطبقة عالمياً، ولكن إذا عولجت أسباب تقلص العرض قياساً بالطلب عندها ستصبح نسب التملك عالية ومفيدة للتنمية الاقتصادية، ولكن أن يكون جل الحلول في صالح الشراء بالأسعار الحالية التي تتطلب رفع حجم التمويل ليلاحق القيم الحالية وبما لا يتناسب مع الدخل ولا القيمة العادلة للأسعار، فإن كل ما يقدم سيصعب من مهمة وزارة الإسكان ويقلل من آثار أي حلول، ويبقي نسب التملك محدودة ونموها بطيئاً، وأي تعثر بالسداد مستقبلاً سيوجد مشكلات اقتصادية أخرى نحن في غنى عنها وعن أبعادها السلبية على المجتمع والاقتصاد.