العقار منفذ استثماري رئيس في كل اقتصاد، وهو مهم جدا لأنه يسهم في توفير وتطوير أحد أهم عوامل الإنتاج، “الأرض”، ولا يمكن لأي اقتصاد أن يعمل دون الأرض المطورة الجاهزة للاستخدام، فالاستثمار هدف من أجل تعزيز إنتاج القيمة التي تضمن الاستدامة الاقتصادية، لكن في أحيان كثيرة تسيطر الأنشطة الاستثمارية على الاقتصاد وتسير به في غير مساره الطبيعي، حيث تصبح عوامل الإنتاج المستثمر فيها مجرد وسيط لنقل الثروة سواء بين الناس أو في الزمن، ولا تعمل عوامل الإنتاج حينئذ من أجل زيادة القيمة في الاقتصاد، وهذا خلل يحدث بين فترة وأخرى وهو الذي يتسبب من بين عوامل عدة في حدوث الأزمات الاقتصادية، والاقتصاد السعودي ليس استثناء، فالتحول الذي أصاب دور العقار خلال فترة ماضية كمحرك للإنتاج إلى مجرد مخزن للثروة، قد أصاب الاقتصاد معه بحالة من الركود التي نشهدها اليوم، وبدأت السوق العقارية تعاني ضبابية كبيرة، بسبب حالة عدم التأكد التي تعيشها حاليًا.
وهذا نتيجة لما حدث خلال نهايات العقد الماضي من تحولات رئيسة في هذه السوق؛ لكن يجب الاعتراف بأن جزءًا من المشكلة التي حدثت كان يعود أساسًا إلى عدم وجود بنية استثمارية واعية في قطاع العقار، حيث توجه الاستثمارات نحو الإنتاج الاقتصادي وتحقق للمستثمرين رغبتهم في الحفاظ على الثروة وتنميتها بالعوائد، وقد تأخرنا كثيرا في ذلك ولأسباب يصعب فهمها، لكن أخيرا بدأت الأمور تعود إلى مسارها الطبيعي، وظهرت على الساحة الاقتصادية منافذ استثمارية عقارية آمنة، لعل أهمها على الإطلاق صناديق الاستثمار العقارية المتداولة في سوق المال السعودية “تداول”.
لكن في هذا المسار يأتي تصريح رئيس السوق المالية السعودية “تداول” مقلقا، فهو يؤكد أنه في بداية الطروحات الأولى للصناديق شوهد عدم إلمام بعض المستثمرين بآلية عمل هذه الصناديق. وهو يوصي بعدم التعامل مع الصناديق العقارية المتداولة مثل التعامل “بالأسهم”، وهذه إشارة تستحق الوقوف عندها كثيرا، فيبدو أن ظاهر التعامل في صناديق “الريت”، ضمن السوق المالية جعلها تتعرض للضغوط نفسها التي تواجهها سوق الأسهم والمضاربة اليومية للبحث عن مكاسب رأسمالية، لكن هذا التعامل مع هذه الصناديق بهذا المفهوم سيقوض دورها المنشود في تطوير السوق العقارية والإسهام في استقرارها.
وإذا استمرت التداولات في هذه الصناديق بهذه الطريقة فإن حجمها وعدد وحداتها في السوق قد يتعرضان إلى ضغط تذبذب في الأسعار دون أن تبررها العوائد، ما يحدث ارتباكا في السوق العقارية ككل، وهو غير مقصود وليس هذا وقته، لهذا فإن رئيس السوق المالية يؤكد أن الصناديق العقارية المتداولة هي وحدات استثمارية لعائد، وليست استثمارا للربح.
وهنا نعود إلى المربع الأول نفسه من مشكلة العقار، فالعقار كمنفذ استثماري يجب أن يرتبط بالعوائد وليس بالمراهنة على ارتفاع سعره. وظهور هذه المشكلة مرة أخرى في الصناديق العقارية يدل على أن الثقافة الاستثمارية السائدة في المملكة ليست ثقافة إنتاجية، وليست ثقافة صناعية وبناء الاقتصاد وتحقيق الثروة من خلال إنتاج القيمة، بل ثقافة المضاربة الآنية، ثقافة استثمارية تستهدف السعر وليس القيمة، ثقافة قد ترتفع فيها أسعار الأشياء دون أن يكون لها عائد اقتصادي حقيقي.
ويبقى دور وزارة التجارة والاستثمار والهيئة العامة للاستثمار ضروريا في تصحيح مثل هذه المفاهيم الاستثمارية المغلوطة، وهي ذات آثار اقتصادية سلبية.