صدرت بالأمس القريب قرارات تنظيمية هدفها التوجه بالبلاد نحو تحقيق أهداف رؤية السعودية 2030، وجميع هذه القرارات تهدف إلى تغيير النمط السائد في التعامل مع المهام الرئيسة لكل قطاع والسير نحو مفهوم جديد للإدارة، وإحداث نقلة نوعية في كثير من المؤسسات الحكومية التي أمضت سنين طويلة وهي تمارس مهنة تسيير الأعمال، دون محاولات للتمشي مع التغيير وابتكار طرق وأساليب جديدة، ودونما اهتمام بسباق التنمية والتطوير الذي يجري حولنا في دول العالم.
من ينظر إلى مدننا بشكل عام ويتمعن في ما هي عليه من نقص في الخدمات (مياه جارية، صرف صحي، منتزهات عامة، مواقف سيارات، نقل عام، نظافة….الخ) وكيف تحولت خلال الأربعة العقود الماضية إلى غابات من الخرسانة تفتقد إلى التنظيم وتغلب عليها الفوضى، فسوف يتساءل عن كيف ستستطيع هذه البلديات تحقيق أهداف الرؤية الوطنية وهي على هذا الحال.
لقد سلمت البلديات طوال تلك السنين الماضية مهامها في تخطيط المدن وتوجيهها، إلى تجار العقار فهم من خططوا والبلديات تعتمد، فنتج عن ذلك أحياء تفتقد للحياة، فلا شوارع فسيحة (شوارع بعرض 8 و10أمتار) ولا ممرات للمشاة ولا مواقف للسيارات ولا منتزهات عامة ولزيادة الطين بلة، شُرحت تلك الأحياء بما يسمى بـ«الشوارع التجارية»، فخلقت أعدادا خيالية من المحلات الصغيرة – تفوق أي تقديرٍ منطقي لحاجة المدينة – تسببت في استقدام أعداد مهولة من العمالة الأجنبية للعمل بها، جالبين معهم كل ما يترتب على ذلك من مشاكل اجتماعية واقتصادية.
لم تقف البلديات عند هذا الحد، بل استمرت في ترك القرارات التخطيطية الرئيسة لأصحاب الأراضي، فأنتجت نظام بناء يعتمد على التوسع في رقعة البنيان – حتى لا تبور الأراضي البعيدة – فمنعت تعدد الأدوار وألزمت الجميع بنظام ارتدادات ابتلع نصف الأراضي وأضاف على المواطنين تكاليف غير مبررة لامتلاك مساكنهم. ذلك التوسع لم يصاحبه أي خطط مدروسة لكيف سيتم توصيل الخدمات لهذه الأطراف المتباينة والتكاليف المترتبة عليها، فنتج عن ذلك إرهاق كاهل الدولة والمواطنين بأموال طائلة لمحاولة اللحاق بها وتوفير الخدمات والمرافق لها.
أما أواسط المدن فهي قصص حزينة، تركتها البلديات لتتهاوى وتتهالك وتصبح مرتعا للعمالة الأجنبية يمارس بعضهم فيها شتى الممارسات غير النظامية، فلم تقم البلديات طوال الثلاثين سنة الماضية بأي محاولات جادة لإعادة ترتيب أواسط المدن وإعادة بنائها والاستفادة منها في حل أزمة السكن على الرغم من توفر الخدمات، فأصبحت القلب المريض للمدينة ولا يصح جسم وقلبه عليل.
أما فيما يتعلق بإدارة المدينة وتنظيمها، فهي في تراجع مستمر، فسمحت بتحويل المرافق إلى مساكن والمساكن إلى مكاتب والعمائر السكنية إلى شقق فندقية. كما وزعت التراخيص التجارية يمنة ويسرة دون معايير فنية دقيقة، ودونما أي اهتمام بما سينتج عنها من أضرار على الأحياء أو على الشوارع.
على الرغم من الازدحام المروري الذي أصبح مصدر قلق وإزعاج للسكان، لم تقم البلديات بأي محاولات تذكر للتصدي لهذه المشكلة، فلم تنشئ لها إدارات متخصصة – على الرغم من المطالبة بها لسنين طويلة – ولم تحاول الاستفادة من تجارب المدن الأخرى، وبهذا سمحت للمشكلة أن تتفاقم وأهدرت بالطريق مليارات الريالات التي كانت ستجنيها للصالح العام لو أنها نظمت الوقوف على الشوارع – مثلها مثل كل دول العالم – وأجبرت المستثمرين على تحمل نتائج تطويرهم على شبكة الشوارع.
بإمكان أي شخص – حتى لو لم يكن متخصصا في هندسة الطرق – أن يلاحظ التخطيط الرديء والتنفيذ الأسوأ لشبكة الشوارع، فكثير من الشوارع دون علامات أرضية صحيحة، ولا شاخصات مرورية (إشارة قف لا وجود اعتباري لها) ولا قطاعات صحيحة (عروض الشارع بناء على رغبة صاحب الأرض وليس بناء على مسببات علمية) وبتصاميم خاطئة تعرض حياة الناس للخطر (مثل الدوران على الشوارع السريعة)…الخ.
وفي ما يتعلق بالاستخدام الأفضل للموارد، نرى البلديات بعيدة عن هذا كل البعد، فهي ترصف وسط الشارع وتترك أرصفة المشاة، وتشجر وسط الطريق وتترك جوانبه، وتزرع الطرق السريعة وتتجاهل إيجاد منتزهات عامة كبيرة.
أما في تنظيم العمل الإداري بها، فهي لا تزال تقبع في المؤخرة، فلم تحاول التكيف مع الواقع ولم تعد هيكلة نفسها لمواجهة مشاكلها، فإداراتها القديمة بتنظيمها القديم الجامد، ما زالت تقوم بتسيير الأعمال كما كان يعمل أسلافها. كما تعاني نقصا حادا في الكوادر المدربة المطلوبة لمراقبة النشاطات التجارية والعمرانية.
من يقم بزيارة لأي من البلديات الفرعية للأمانات، سوف يجدها في مبنى مستأجر متهالك، حولت فيه الشقق إلى مكاتب تعج بموظفين أول الصباح وتخلو منهم بعد صلاة الظهر.
إذا أردنا أن نمضي بسرعة نحو رؤية السعودية 2030، فلا بد من مراجعة شاملة لقطاع البلديات وإعادة هيكلته واعتماد أنظمة جديدة له لا تكرر أخطاء الماضي، وتتبنى سياسات هدفها إيجاد مدن عصرية تزخر بالمرافق والخدمات وبيئة سكنية تضاهي ما هو موجود في البلدان المتقدمة، فلا سبب يدعو إلى بقاء مدننا على هذا الحال في الوقت الذي حددت الدولة أهدافها للسير في مقدمة قافلة التنمية.