حدّد «كيفن لينش» في كتابه الصورة «الذهنية للمدينة» عام 1960م، ثوابت ومعايير علمية لتحليل الصورة البصرية وتطبيقاتها على محيط المكان، حيث كان إدراك المدينة كوحدة عمرانية متكاملة حالة معقدة تتطلب مراجعة العوامل المؤثّرة فيها مثل التكوين الفيزيائي والمعنى الاجتماعي والوظيفة الحضرية والتاريخية وغيرها، وكان ذلك مدخلاً تاريخيًا في تأصيل الشكل العام للبيئة العمرانية.
نحن نتحدث هنا عن علم قائم بذاته يمكّننا من توظيف العناصر البصرية لتؤدي دورها الرئيس في تكوين صورة ذهنية واضحة عن إطار الحياة الذي نعيش فيه، ذائقة المكان ليست ترفًا عمرانيًا، بل هي معيار رئيس للإدارة المكانية الجيدة، فالمجتمعات المتذوّقة لفن العمران لم تعد تقبل أن تتعايش مع منظور بصري تشكله الأراضي الرثة والشوارع المتردية والأرصفة المتهالكة والمليئة بعوائق المشاة، ومخلفات البناء والتعمير، والمباني الخرسانية الفقيرة في تصميمها واللوحات الدعائية المشوّهة والعناصر المعمارية غير المعبرة، التي تمثّل نشازًا في البانوراما العمرانية المرئية.
مدننا ما زالت تفتقد لأهم عناصر الجمال في تكوين صورة المدينة البصرية، الأمر لا يقتصر على الشكل المعماري لواجهات المباني المحيطة فحسب، بل يندرج على كل تفاصيل الفراغ العمراني وتصميمه ومكوناته مثل المسارات والممرات وحدود الأجزاء والوحدات والعلامات العمرانية المميزة والأحياء البصرية والمناطق الخضراء والواجهات البحرية.
في رأيي الشخصي أن الحلول التوعوية التي تعتمد على نشر ثقافة الجمال الحضري في بيئتنا المحلية لم تعد مجدية في ظل غياب الآليات الفاعلة التي يمكن من خلالها ضبط لشكل العمراني العام للمدينة السعودية، لا سيما في ظل سيطرة مجموعات القوى، وتأصيل الربحية كأولوية في المشروعات الخاصة، وغياب المتخصصين في العمارة والتخطيط عن دائرة اتخاذ القرار في إدارة العمران بشكل عام، الأمر الذي يؤكد أن الحاجة تدعو إلى فرض أنظمة ومعايير وعقوبات صارمة وقسرية من إدارة المدينة باستخدام رخص التشييد والبناء والتشغيل والرقابة الدورية الضابطة كأحد أهم الأدوات التي يمكن أن تساعد في رفع مستوى الذوق المكاني.
إن مراجعة لوائح الغرامات والجزاءات المتعلّقة بأنظمة البناء وتراخيص الخدمات والمرافق العامة ورفع حدها الأعلى وتغليظها أمر حتمي وضرورة ملحة لتفعيل الشخصية الإدارية للمدينة، فنماذج مثلى للبيئة العمرانية المتطورة على مستوى العالم الأول لم تنشأ من ثقافة العمران وحدها، بل كان وراء ذلك نظام إداري مقنن وصارم في إصدار تراخيص التشييد والتجارة وفرض عقوبات مشددة على مخالفي الأنظمة العمرانية. عدا ذلك فإن الفوضى البصرية وما يتبعها من خصائص وظيفية سوف تؤثّر على تركيبة المدن في المستقبل.
بورتريه المدينة السعودية الذي نحلم برسمه لن يظهر بين يوم وليله، إنه بحاجة إلى ثقافة تراكمية للإحساس بتفاصيل المكان، علينا العودة إلى الفنون المرئية وأصحابها ممن يستطيعون قراءة المدينة وجمالياتها ويحملون في داخلهم حياة من الإبداع والخيال والحس المرهف، لنمنحهم الفرصة في بناء ذائقة المكان لأن هذا عالمهم الذي يجيدون العيش فيه وإدارته، أنا واثق بهم وبفنهم وبأنهم سيقدمون عرضًا مبهرًا بحجم الذائقة التي تسكنهم.