
قبل عدة أسابيع أعلنت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض توسيع حدود الضاحية الشمالية والضاحية الشرقية في العاصمة لتزيد من مساحة المدينة حوالي 380 كم2، والحقيقة أن هذا القرار جعلني أتوقف كثيرا عند مفهوم المدينة لدينا وتبعات التنمية الحضرية التي يبدو أنها تنهك قوانا الاقتصادية دون طائل.
أذكر أن هيئة تطوير الرياض عقدت ورشة عمل قبل عشرة أعوام تقريبا دارت حول التوقعات السكانية للمدينة والتي كانت تطمح لأن يصبح سكان الرياض 11 مليون نسمة بحلول عام 1442ه/ 2020م.
لقد كنت من أشد المعترضين على تلك التوقعات وطالبت بأن نعمل بكل قوانا لإبقاء سكان الرياض بنفس المعدل الحالي بحيث لا يزيد على 5 ملايين نسمة، لأن تكلفة إدارة المدينة واستدامتها عالية جدا، كما يجب أن نفكر في التنمية المتوازنة بحيث لا يطغى نمو الرياض على نمو المدن الأخرى فتحدث هجرة للعاصمة ويحدث فراغ سكاني في مناطق مهمة وحدودية لا تتوفر فيها التنمية المطلوبة.
السؤال المهم هو: هل نحتاج لأن تكون الرياض بهذا الحجم، أم أن هذه الزيادة ليس لها علاقة بالتنمية الفعلية لأنها مجرد “نشاط عقاري” يساهم في ترهل المدينة وهدر مواردها وموارد الاقتصاد الوطني ويرهق المدينة اجتماعيا وثقافيا؟ هذا السؤال وجهته إلى الكثير الذين يعشقون الرياض ويحنون إلى الزمن الجميل فيها ويعودون إلى “رياض الستينيات والسبعينيات”، التي يبدو أنها محيت من الذاكرة تماما. كانت إجابتهم بأن زيادة مساحة الرياض بصورتها الحالية “أذابت ذاكرتها” وأفقدتها طعمها المديني الذي كانوا يشعرون به ويربطهم بها.
العلاقة بالمكان أصبحت ضعيفة و”غائمة” و”مشوشة”.
كل هذه العبارات القاسية والصادقة تضع أكثر من علامة استفهام حول هذا التوسع غير المبرر للضواحي والذي لن يكون الأخير، لأن الطموح العقاري أقوى بكثير من قيمة المكان الثقافية.
من الملاحظات المهمة هي أن الرياض تملك العديد من الأماكن الرائعة، لكن غير المنظورة، فوسط هذا التشوش الحضري للمدينة تغيب سماتها الجميلة والتي خولتها للحصول على جوائز معمارية وحضرية مرموقة.
التشوش الحضري يطغى على ذاكرة سكانها ويجبرهم على التعامل مع المدينة بسطحية شديدة جدا فقد أصبحوا يلامسون الرياض وأمكنتها على الهامش ولم يعد لديهم متسع من الوقت للغوص عميقا في أمكنتها واكتشاف ثقافتها وطبيعتها. الانفصام في ذاكرة المكان نتج عن تراكم طبقات حضرية ليس لها أي عمق اجتماعي أو ثقافي جعلت من التكوين العمراني المؤثر في المدينة غير محسوس.
كما أن الازدحام المروري الشديد جعل المدينة هامشية في ذاكرة سكانها وأضافت عليهم ضغوطا نفسية لم يعهدوها من قبل حتى إن أحد الزملاء وهو أستاذ للتخطيط العمراني أجابني بعد أن علقت على الشعرات البيضاء التي بدأت تغزو وجهه بقوله: إنها بسبب سياقة السيارة في الرياض.
هذه الظاهرة تشكل “عزوفا نفسيا” يجعل ساكن المدينة يبتعد تدريجيا عن أمكنة المدينة ويكتفي بأمكنته الخاصة فيعيش غريبا داخلها.
في المقابل لا بد أن نتوقف عند ظاهرة الإقبال الشديد على حي البجيري في الدرعية التاريخية. لماذا لم يحدث هذا الإقبال في منطقة قصر الحكم ومركز الملك عبدالعزيز التاريخي رغم أن هذين المكانين مؤهلان أكثر من أي أماكن أخرى؟
هذه الظاهرة “العمرانية” مثيرة للجدل، فلماذا تنجح أمكنة دون غيرها.
في اعتقادي أن السبب الرئيس هو “التشوش الحضري” الذي صار يهيمن على مدينة الرياض منذ أكثر من عقدين نتيجه لتوسعها العمراني غير المدروس. البجيري في الدرعية صار يمثل للكثير من سكان الرياض “ملجأ الذاكرة” المفقودة التي تراجع حضورها فشكل هذا المكان “الأليف” كل ما يحتاجه ساكن الرياض لاستعادة الزمن الجميل الذي اختفى نتيجة هذا الاندفاع العقاري المحموم.
من الأدبيات الحضرية أن الناس هم الأقدر على “تقييم المكان” الذي يعيشون فيه أكثر من متخذ القرار الذي غالبا ما يتخذ قراراته وفقا لمعطيات ودراسات لا يكون الناس جزءا منها، وبالتالي فإن كثيرا من القرارات تتصادم مع رغبات الناس وتطلعاتهم ويؤدي ذلك إلى فشل عمراني ذريع وتصبح المدينة عبئا على سكانها وعلى من يديرها.
في اعتقادي أن الرياض تحتاج إلى أمكنة مثل البجيري في الدرعية وليس إلى زيادة في مساحة ضواحيها الممتدة في الصحراء إلى ما لا نهاية.
وإذا ما كنا نؤمن أن التنمية هي من أجل الإنسان فيجب أن نبحث عما يسعد هذا الإنسان لا عن “تمطيط” رقعة المدينة لخدمة أهداف عقارية ليس لها علاقة بالتنمية الحقيقية.
الرياض بكل ما تحمله من زخم تاريخي وثقافي وسياسي تحتاج لأن تكون مدينة ذات هوية واضحة لا أن نمعن في تشتيت هذه الهوية وتفكيكها، تحتاج إلى تركيز حضري وإعادة الحياة لأوصالها التاريخية التي شكلت مفاصل القرن العشرين على المستوى العمراني المحلي والإقليمي لا أن نمحو كل هذه المكتسبات التي تملكها الرياض من خلال تشتيتها وتذويب حضورها الذهني بزيادة مساحتها دون مسوغ أو حاجة فعلية، قد يكون مقبولا أن تكون هذه الزيادة عبارة عن متنزهات وطنية تحيط بالرياض وتحميها من الصحراء وتحدد مساحتها المستقبلية بشكل نهائي، فهذا التوجه محمود، لكنه ليس في الحسبان ولم يخطر على البال (إذا ما استثنينا الثمامة) لأن الهدف ليس تنمية الرياض والحفاظ على مكتسباتها بل “زيادة المساحة” وحسب.
المدينة السعودية بشكل عام بحاجة إلى مراجعة شاملة، فما يحدث في الرياض بشكل واسع يحدث في الكثير من المدن السعودية الإقليمية وحتى الصغيرة بشكل أو بآخر. لقد أصبح التنافس العقاري الذي يبحث عن أراض جديدة من أجل الاستهلاك التجاري هو الظاهرة الأكثر تأثيرا على نمو هذه المدن خلال العشرين سنة الفائتة، وقد أدى ذلك إلى هدر مذهل في موازنات الدولة على مشروعات بلدية غير ضرورية مع استمرار مستغرب للمشكلات التي تعاني منها هذه المدن نتيجة للتوسع غير الضروري وعدم التركيز وتشتيت الموارد، وسيشكل عبئا كبيرا في المستقبل لإدارة واستدامة هذه المدن. هذه الظاهرة بحاجة إلى “حزم” عمراني وتنموي من أجل معالجتها وإلا سنواجه كوارث تنموية كبيرة في المستقبل القريب.