نعم يا وزارة الإسكان، بعد ما أعلن عنه على لسان وزيرك المكلّف في الوقت الراهن أن توجهات الوزارة تختلف عن السابق تغييرا بحد ذاته! ولكن ليس كل تغيير منتهيا بالنجاح! وليس ما صرح به أثناء افتتاح “معرض الرياض للعقارات والإسكان والتطوير العمراني” بقوله، إن البحث عن الأرض مرورا بتخطيطها وتهيئة البنية التحتية والبناء كله سيصبح للقطاع الخاص العقاري، وأن دور الوزارة سيقتصر على الإشراف، ولن تتدخل في الأمور ذات العلاقة بالتخطيط أو البنية التحتية أو البناء، أقول، ليس هو فقط السبيل الوحيد لتحقيق الشراكة الاستراتيجية مع القطاع الخاص العقاري.
هل يعتقد الوزير المكلّف للإسكان بتوعده للشركات التي قد تتورط في محظورات الطمع والجشع بالنسبة لرفع الأسعار، أن صرف نظر الوزارة عنهم كافٍ لردعها؟! وهل يعتقد أيضا أن توجه الوزارة إلى شراء السكن للمواطنين من الشركات المطورة، سيكون مشروطا برؤية المواطن ورغبته واختياره من المطورين العقاريين للتصميم الذي يناسبه، إنه سيكون كافيا لمنح المواطن الخيار العادل غير المضطر للشراء؟!
إلا أن أخطر ما ورد في التصريحات الأخيرة لوزير الإسكان المكلف؛ تبريره لتأخر إشراك القطاع الخاص العقاري بقوله، (هي تجارب وبالتالي التجربة الأولى لم تنجح، وعليه تغيرت التوجهات من أجل تسريع الحصول وتوفير السكن للمواطنين). إنها نظرة إلى ملف الأزمة الإسكانية الراهنة، وإلى ما مضى من عمل وزارة الإسكان طوال أربعة أعوام مضت؛ على أنها مجرد “تجارب”! وأنه بسبب الفشل المستمر لتلك التجارب المتتالية، فلا مانع من القيام بتجربة جديدة أخرى!
عجبا وأي عجب؛ هل ينظر إلى مواجهة الأزمات والتحديات الجسيمة للاقتصاد والمجتمع على أنها مجرد “تجارب”؟ نجرّب هذه فإن لم تنجح نجرب أخرى! أليس عمل الأجهزة الحكومية قائما على أسس ومنهجيات تنفيذ واضحة؟ أليس عمل كل جهاز حكومي منفرد ضمن منظومة عمل تكاملية لعموم الأجهزة الحكومية الأخرى؟ أليس هذا هو المعلن عنه رسميا، وضمن سياسات الإدارة الحكومية لدينا؟
إن التصريح الرسمي بأن عمل وزارة الإسكان سابقا، وحاضرا ومستقبلا كان وسيكون مجرد “تجارب”، وأن بيئة الإسكان والسوق العقارية لا تتعدى كونها “حقل تجارب” بالنسبة لها، أؤكد أنه التصريح الأخطر في تاريخ الإدارة الحكومية السعودية! أين استراتيجية الإسكان التي طالما تحدث عنها الوزير السابق؟ وماذا ناقش معه مجلس الشورى طوال الأربعة أعوام الماضية؟ هل كان نقاشا حول تجربة تلي تجربة، أم حول استراتيجية عمل لأحد أهم أجهزة الحكومة ممثلا في وزارة الإسكان؟ دع عنك “الصدمة” الأكبر وقعا على نحو 20 مليون مواطن، وترقّب ثلاثة أرباعهم طوال أربعة أعوامٍ مضت نتائج جهود وأعمال وزارة الإسكان المدعومة من الدولة بـ 250 مليار ريال، ليكتشفوا اليوم أن كل ما سبق لم يكن إلا مجرد “تجارب”، وأن عمل الوزارة مستقبلا سيستمر بمنطق إجراء “التجارب” إلى ما شاء الله من الزمن!
ألم تدرك وزارة الإسكان ووزيرها المكلف بخوضها “التجربة” الجديدة وفقا للتصريح الأخير أعلاه، إن أغلب شركات التطوير العقاري المزمع منحها “رقاب المواطنين”، تحت مسؤولية الوزارة كانت أحد أبرز أسباب الأزمة الإسكانية الراهنة؟ ألم تظهر لها دراسات السوق العقارية التي طالما تحدثت عنها سابقا، دور تلك الشركات في صناعة الأزمة؟ أم أن تلك الدراسات ليس لها وجود من الأصل قياسا على فحوى التصريح الأخير، وأن الأمر برمته لم يتعد كونه مجرد “تجارب”؟ ألم تدرك وتعلم وزارة الإسكان أن أغلب منتجات شركات التطوير المحلية، قد تكدست بائرة في حلوق ملاكها طوال الأربعة أعوام الماضية؟ وأنها عجزت عن تمرير نحو 915 ألف وحدة سكنية باختلاف أنواعها إلى المجتمع؟ إما بسبب الطمع والجشع الذي طغى على أسعارها، على الرغم مما تعاني منه من رداءة البناء والتشييد والتصميم! إن “التجربة” الجديدة التي تزمع وزارة الإسكان القيام بها، شبيهة تماما بنقل “تفاح فاسد” من كرتون المطور العقاري إلى كرتون وزارة الإسكان، ومنها لقذفه في بطن المواطن الجائع للسكن!
يبدو أن وزارة الإسكان بإثبات تصريح وزيرها المكلف؛ لا تدرك جيدا المعنى الحقيقي للشراكة مع القطاع الخاص! وليس هو كذلك على الإطلاق أن تفتح المجال للقطاع الخاص العقاري، لتمرير ما تكدس في نحره من تفاح فاسد في أغلبه إلى معدة المواطن المتقرحة! لقد كان المنتظر من الإسكان أن تترجم توجيهات خادم الحرمين الشريفين، وأن تلبي احتياجات المواطن وأسرته عبر طرق أخرى تختلف تماما بنسبة 100 في المائة، عما صرح به الوزير المكلف أخيرا! ذلك أن ما صرح به يترجم فقط الأحلام اليائسة للقطاع الخاص العقاري فقط، التي أتاها هذا التصريح كالمطر بعد جدب وجفاف امتد لثلاث سنوات أو أكثر! أتاها ليكافئها على ما تسببت فيه من صناعة للأزمة الإسكانية، ومن جهة أخرى ليفتح أمامها المنفذ غير المستحق لنجاتها من تحمل نتائج أفعالها! ليس هذا فحسب، بل لقد أتى التصريح كعقاب للمواطن المضطر، الطرف الذي تحمل وحيدا طوال الفترة الماضية أضرار افتعال الأزمة الإسكانية، ومن عجب أن تضطره وزارة الإسكان في الوقت الراهن إلى تحمل أثمانها الباهظة وحيدة! وكشرط لخروجه من قمقم الأزمة الإسكانية، فإن عليه ابتلاع تفاحة فاسدة باختيار ما شاء من كرتون “التفاح الفاسد” لتلك الشركات!
لا يكفي أبدا؛ تحذير وزارة الإسكان من أخطار “تجربتها” الجديدة التي تزمع ارتكابها في حق المجتمع، إذ لا بد أن يضطلع مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بدوره المهم والمسؤول هنا، وأن يتولى بثقله الأرجح، ونظرته الأوسع والأشمل إدارة ملف الأزمة الإسكانية المحلية، قبل أن تستفحل النتائج المدمرة لهذه “التجربة” التي امتلأ رحمها بمؤشرات الفشل قبل أن تلدها! كما ينظر إلى المجلس بعين الأمل للتأكد من عدم تورط وزارة الإسكان في شراء تلك المنتجات السكنية المتعثرة في حلوق ملاكها لسنوات عدة، وللتأكد من عدم تورطها في شراء بعض مخططات الأراضي السكنية داخل بعض المدن الرئيسة، ذلك أن بيانات وزارة العدل قد أظهرت مطلع الأسبوع الجاري، بيع مخططات أراضٍ سكنية بمساحات شاسعة في مدينة جدة، يخشى أن تكون وزارة الإسكان الطرف المشتري لها، خاصة أن قيمتها الباهظة وصلت إلى 5.2 مليار ريال (مساحة إجمالية 1.6 مليون متر مربع، بمتوسط قيمة 3172 ريالا للمتر المربع).
يجب أن تعود وزارة الإسكان إلى إدارة الأزمة الإسكانية وفق استراتيجية شاملة ودقيقة، لا تبدأ العمل بموجبها إلا بعد عرضها بالتفصيل على مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وقيام المجلس بمناقشة تلك الاستراتيجية، ومن ثم البدء بالتنفيذ الفعلي لها بعد موافقته! أما أن يتم التعامل مع هذه الأزمة التنموية الجسيمة بمنطق “تجربة” الصح والخطأ، فلا شك أننا بهذه الصيغة نسير باتجاه انفجار الأزمة بما لن تحمد عقباه! والله ولي التوفيق.