تظهر بيانات السوق العقارية الأخيرة، أن ملاك الأراضي و العقار يقبعون في ورطة تكدس مخزون هائل جدا من الأراضي والعقارات، فعلى مستوى الأراضي تجاوز إجمالي مساحاتها المتاحة للبيع والانتفاع حتى نهاية 2014 نحو 5.2 مليار متر مربع، وهو مخزون كاف جدا لتلبية احتياجات نحو 1.8 مليون أسرة! أما بالنسبة للعقارات والوحدات السكنية، فوفقا لبيانات شركة الكهرباء يصل فائض المساكن حتى العام الجاري إلى 915 ألف وحدة سكنية شاغرة، وبإضافتها إلى مخزون الأراضي فأنت أمام مخزون فائض من الأراضي والمساكن يناهز مجموعه نحو 2.8 مليون قطعة أرض ومسكن!
إنه المخزون الفائض الذي يلبي احتياجات المجتمع من الإسكان لعقد ونصف العقد أو يزيد، تقدر القيمة الإجمالية لمبيعاته بأسعار الوقت الراهن بما يقارب الـ 5.0 تريليونات ريال “يعادل تقريبا ضعف حجم الاقتصاد الوطني”، وهو الرقم الذي يخطط ويطمع إلى جمعه في حساباته تجار الأراضي والعقارات على حساب مجتمع بأكمله تجاوز تعداده 20 مليون نسمة من المواطنين، علما بأن هذا الرقم الإجمالي المتضخم للمخزون من قطع الأراضي السكنية والمساكن، يتجاوز ثمانية أضعاف قيمته الحقيقية، بمعنى أنه لا يتجاوز في قيمته العادلة سقف 625 مليار ريال فقط!
لقد وصل الأطراف ذوو العلاقة كافة إلى نهاية طريق مسدود تماما، فأفراد المجتمع وفقا لمستوى دخلهم السنوي ولحدود قدرتهم الائتمانية، لا يمكن لهم تملك أي من ذلك المخزون المكدس لدى تجار الأراضي والعقار. وفي الوقت ذاته يكابر ملاك ذلك المخزون المتضخمة أسعاره، رافضين البيع بأقل من المستويات المتضخمة التي وصلت إليها الأسعار المبالغ فيها، ولهذا تجدهم في حقيقة الأمر يحاربون تماما أية توجهات تستهدف خفض تلك الأسعار المتضخمة.
يدرك تجار الأراضي والعقارات أن الموقف الراهن، ممثلا في حزمة القرارات والإجراءات التي اتخذتها الدولة بدءا من تحديد نسبة الحد الأقصى للتمويل العقاري بما لا يتجاوز 70 في المائة من حجم التمويل، الذي بدأت بتطبيقه الإلزامي تحت مظلة نظام مراقبة شركات التمويل بتاريخ 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 الماضي، الذي عطل تماما خططهم للتخارج على أقل تقدير من هذا المخزون الإسكاني “الورطة”، مرورا بإعلان الدولة الموافقة على فرض الرسوم على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات نهاية آذار (مارس) الماضي، واقتراب الإعلان رسميا عن الآليات التي من خلالها سيتم تطبيق تلك الرسوم، والبدء بتحصيلها من الأطراف المستحقة عليهم، عدا بقية العوامل الأساسية الأخرى التي تكبح جماح الأسعار، كل تلك العوامل والمتغيرات المتسارعة في أقل من عام، زادت دون أدنى شك من الوطأة على تجار الأراضي والعقارات، ولهذا لم يكن أمامهم إلا أن بدأ عديد منهم بعمليات المراوغة والالتفاف على تلك الإجراءات والقرارات بأي وسيلة كانت!
تبدأ المحاولات اليائسة لتجار الأراضي والعقارات من خلال واجهاتها المعروفة ممثلة في اللجان العقارية بالغرف التجارية، بمحاولة إقناع مؤسسة النقد بالتراجع عن قرار تحديد نسبة الحد الأقصى للتمويل العقاري، والعمل على رفعه إلى أعلى من 90 في المائة على أقل تقدير، وهذه الخطوة الأولى التي تحمل في خطورتها فتح ثغرة واسعة لتوريط القطاع المالي لدينا في تشوهات السوق العقارية، وهو ما عملت مؤسسة النقد والجهات المالية لدينا على منع وقوعه طوال عدة أعوام سبقت إعلان تطبيق أنظمة التمويل، احترازا من تكرار الأزمات المالية التي ضربت عديدا من بلدان العالم، لعل آخرها الأزمة المالية العالمية نهاية 2008. وهذا الخطر بالطبع لا يحمل أية أهمية بالنسبة لتجار الأراضي والعقارات، ولا يوجد له أية اهتمام من قبلهم، فعنوان المنطق المسيطر لديهم هو “أنا ومن بعدي الطوفان”.
بناء عليه؛ بموافقة مؤسسة النقد على تلك المطالبات العقارية الضيقة الأفق، فكأن المؤسسة تصدر موافقتها الرسمية على توريط القطاع المالي في المستنقع العقاري المتضخم سعريا وبالتشوهات الكبيرة، وما سيحدث في مراحل تالية أن تجار الأراضي والعقارات ستتاح لهم الفرصة التاريخية بالتخارج من ملكياتهم المتضخمة سعريا، وتركها في حلق القطاع المالي “الممول” والمجتمع “المتمول”، وفي الوقت ذاته سيفتح ويمهد الطريق تماما أمام استمرار ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات، والأخطر من ذلك استمرار تشوهات السوق العقارية، بل ضمان الحماية لها بعد أن تورط القطاع المالي في الورطة العقارية! حيث سيصبح أي توجه للدولة نحو إصلاح تلك التشوهات الخطيرة، التي من نتائجها انخفاض الأسعار المتضخمة للأراضي والعقارات أحد أكبر المهددات لاستقرار القطاع المالي، الذي سيصبح وفقا لمخطط العقاريين “درعا واقيا” لسوقهم المتشوهة تماما.
لن يقف الأمر عند هذه التطورات البالغة الخطورة جدا؛ بل سيتجاوزها إلى ما هو أخطر وأعنف اقتصاديا واجتماعيا، إذ إن ما ذكرته أعلاه من تقدير للقيمة السوقية الإجمالية لمخزون الأراضي والعقارات، سيتحول مع استمرار انتقال ملكياته عبر قنوات التمويل المصرفية والتمويلية التي تشرف عليها مؤسسة النقد إلى ديون مصرفية طائلة على كاهل المواطنين، ولن يقف حجم المديونية على المواطنين حينئذ عند الـ 5.0 تريليونات ريال فقط، بل سيتجاوزه إلى أعلى من 8.0 ـــ 9.0 تريليونات ريال، وهي المبالغ من الديون المصرفية الطائلة التي سيتورط فيها الجميع دون استثناء، بمن فيهم تجار الأراضي والعقارات قياسا على المخاطر والأزمات التي ستتفجر اقتصاديا وماليا واجتماعيا في مستقبل زمني لن يتجاوز العقد من الزمن، ولا يعلم إلا الله وحده إلى أي مدى قد تصل شرور تلك المخاطر من حيث الدمار المحتمل على مقدرات الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء.
اليوم؛ تقع مسؤولية المحافظة على استقرار كل من الاقتصاد الوطني والقطاع المالي والمجتمع على عاتق مؤسسة النقد العربي السعودي! ولها أن تقرر أي طريق تريد الذهاب إليه، فإما أن ترضخ وتستجيب لمطالب تجار الأراضي والعقار، وتجند كادرها لأجل إرضاء هذه الشريحة الضيقة من المجتمع على حساب مقدرات البلاد والعباد، وأن تتحمل لاحقا الويلات والأزمات التي ستنفجر ليس في وجهها فحسب، بل في وجه الاقتصاد الوطني والمجتمع على وجه العموم، وإما أن تتنبه وتحذر منذ اللحظة لمكر تلك المطالبات واحتيالها الخطير، وتقفل أبوابها أمام تلك الشريحة العقارية، لتكمل مسيرتها الناجحة في المحافظة على مقدرات الاقتصاد الوطني، التي تكاد تنجر نحو نصف قرن من الزمن من منجزاته. والله ولي التوفيق.