لا شك أن بيئة الأعمال والاستثمار اليوم أصبحت أكثر تعقيدا، وأن القرارات الاستثمارية لا بد أن تبنى على دراسات وأرقام واقعية يكون مصدرها السوق والواقع، وليس الخيال والأمنيات، ولذلك شهدت السوق خلال الفترة الماضية بعض المشاريع التي دفعت فيها الأموال الطائلة ولكن لم تحقق أهدافها الاستثمارية، وتعثرت وأضحت شاهدا على خلل في دراسة الاستخدام الأمثل للعقار ودراسة الجدوى العقارية، وكذلك إدارة المشروع من حيث مراحل التطوير وحتى وصول المنتج العقاري إلى المستخدم النهائي سواء كمشتر أو مستأجر، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج المخيبة، تلك الدراسات التي لم تنطلق من الواقع ولم تستقى بياناتها من السوق، وإنما تم تلميع وتحسين الأرقام كي تخرج بشكل يعجب المستثمرين وصناع القرار، بغض النظر عن صحة المدخلات ومدى مواءمتها مع واقع السوق العقارية.
كثيرون عندما يريدون طلب دراسة استشارية لمشروع عقاري، يخلطون بين دراسة الجدوى العقارية ودراسة أفضل وأعلى استخدام للعقار.
وفي هذا المقال سأحاول تلخيص أهم الفروقات بينهما، بحيث يكون لدى المستثمر معرفة بنوعية الدراسة التي يطلبها بدلا من أن يطلب شيئا ليس له حاجة به.
وإذا أردنا تعريف دراسة أعلى وأفضل استخدام، التي عرفها كتاب التقييم العقاري بنسخته الكندية بأنها الدراسة التي توضح الاستخدام المحتمل والنظامي لأرض فضاء أو عقار مطور، بحيث تكون ممكنة الإنجاز، ومدعمة ببيانات وأسباب وجيهة، وتحقق جدوى مالية، لتنتج أعلى قيمة ممكنة للعقار”، ولذا فهذه الدراسة تكون مناسبة للمستثمر الذي ليس لديه فكرة عن نوع الاستخدامات التي يمكن وضعها على الأرض أو كيفية إعادة تصميم وتحسين العقار القائم ليحقق أعلى منفعة مالية منه، أو قد تكون هناك عدة استخدامات في ذهن المستثمر لكنه لا يعلم كيفية توزيع هذه الاستخدامات، وفقَا لنسب تحقق الاستخدام الأمثل للعقار، فمثلا في أرض تجارية يسمح عليها ببناء مشروع متعدد الاستخدامات، هل الأفضل أن يكون المشروع طبيا أو سكنيا أو فندقيا بالكامل، أم أن الأفضل أن يوزع بين السكني والطبي والفندقي والمكتبي وغيرها من الاستخدامات بنسب تتوافق مع حاجة السوق وتعطي كفاءة أكبر للمشروع العقاري؟
ولذلك فدراسة أعلى وأفضل استخدام للعقار تجيب عن سؤال “ما الذي يجب أن أضعه على أرضي؟” وهذا يعد أول خطوة بأن تعرف ما الذي يجب وضعه على الأرض من استخدام أو ما هو أفضل استخدام للعقار المطور حاليا.
وتمر هذه الدراسة بثلاث مراحل أساسية: أولا، دراسة السوق؛ وذلك بتوفير بيانات السوق ومن أهمها العرض والطلب للأنشطة العقارية المختلفة، ثم تحليل حالة السوق الراهنة ورسم التوقعات لمستقبل هذه الأنشطة. ث
انيا، تحديد خيارات الاستثمار المتاحة والمسموح بها، ودراسة الجدوى المالية لكل خيار، وأخيرا وضع التوصيات للمشروع الذي يحقق أعلى وأفضل استخدام.
ثم يأتي بعد ذلك دراسة الجدوى العقارية لاستثمار محدد ومشروع واضح المعالم، وفي هذه المرحلة لا بد أن تجيب الدراسة عن سؤال عام وهو “هل يحقق المشروع الأهداف الاستثمارية المطلوبة؟”.
ولذلك لا بد في هذه المرحلة أن يكون لدى المستثمر استراتيجية استثمارية واضحة يستطيع من خلالها تقدير مدى توافق مخرجات ومؤشرات دراسة الجدوى مع استراتيجيته في الاستثمار العقاري، وهذه الاستراتجيات وأنواعها سبق التفصيل فيها في مقال سابق تحت عنوان “استراتيجيات الاستثمار العقاري”، ولذلك فمخرجات الدراسة لابد أن تركز على المعايير والمحددات التي تجعل المستثمر يتخذ قراره بشكل واضح. وهنا يجب التأكيد من استخدام أدوات متعدد مثل خصم التدفقات النقدية والتحليل المالي وتحليل الحساسية، ووضع سيناريوهات متعددة في مرحلة التحليل المالي، ومن المهم معرفة التدفقات النقدية للاستثمار بحساب الدخل قبل الزكاة والإهلاك، وكذلك الدخل قبل الزكاة وبعد الإهلاك، وكذلك الدخل بعد الزكاة والإهلاك، كما يجب استخراج المؤشرات المالية مثلا في القيمة الحالية NPV ومعدل العائد الداخلي IRR بافتراض أن المشروع سيمول من قبل المستثمر بالكامل أو كذلك من قبل شركات تمويل ومن الجيد وضع السيناريوهات المختلفة لهذا الأمر، بحيث تتم الموازنة بين العوائد ومخاطر التمويل بشكل أوضح، وهذا بلا شك لا بد أن يتوافق مع استراتيجية الاستثمار التي تم الالتزام بها قبل الخوض في هذه التفاصيل.
الخلاصة، بعض المستثمرين يقع بين الإفراط والتفريط، فتجد من يفرط في هذه الدراسات وأهمية أخذ وجهات نظر أخرى، ويستكثر الأموال التي تدفع فيها، بحجة أنه قادر على اتخاذ قراره بنفسه، ويقع هنا بالثقة المفرطة التي قد تدخله في خسائر كان من الممكن تجنبها بأخذ نصيحة الخبراء، كما أن هناك من يعتمد بشكل كلي على المخرجات والتوصيات لهذه الدراسات دون تمحيص وتأكيد على جودة المدخلات وماهية الافتراضات، ويكتشف بعد بدء المشروع أن كثيرا مما تم ذكره في الدراسة لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، ولذلك من المهم معرفة مخرجات الدراسة وخوض النقاشات مع معديها للاطمئنان على قابلية تنفيذها.