استكمالا للحديث الموسع حول أزمة العقار والإسكان في بلادنا، بعد أن تم تلخيص أهم أربعة أسباب أفضت إلى تشكلها، أستعرض في الجزء الثاني من هذه السلسلة الثلاثية أهم وأبرز ثمانية إنجازات تمّ القيام بها، وصولا إلى بقية الحلول اللازمة لمواجهة الأزمة ومن ثم تجاوزها بمشيئة الله تعالى.
الإنجاز الأول: بدء وزارة العدل بنشر كل المعلومات والمؤشرات حول أداء السوق العقارية المحلية، والعمل على تحديثها بصورة يومية، الذي وفر بدوره جانبا طالما افتقرت إليه السوق طوال الأعوام الماضية، المتمثل في بناء الشفافية المعلوماتية اللازمة لمعرفة تطورات وأداء السوق العقارية، ما أسهم بفعالية في إغلاق وسد ثغرات غياب معلومات أحد أهم وأكبر الأسواق المحلية، منهيا بدوره فجوة معلوماتية بالغة الأهمية، لطالما انتهزت من قبل القوى المسيطرة على السوق العقارية طوال الأعوام الماضية، تمكنت بوجودها من التلاعب بالأسعار وعقد الكثير من الصفقات الوهمية المضللة، ولعل القارئ الكريم يدرك الدور الذي أسهم فيه ارتفاع معدل شفافية السوق منذ بدء وزارة العدل نشر تلك المعلومات، على مستوى رفع كفاءة تقييم الأسعار بالنسبة لأفراد المجتمع، والتقليص الكبير لفجوات تورطهم في وحل التضليل التسويقي العقاري لعديد من السماسرة والمكاتب العقارية، وهو ما تسعى صحيفة “الاقتصادية” إلى تحقيقه من خلال مؤشرها العقاري الذي تنشره كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع.
الإنجاز الثاني: قيام وزارة العدل تنفيذا لتوجهات الدولة، بالعمل المستمر على إلغاء الصكوك وحجج الاستحكام المزورة على مساحات شاسعة من الأراضي داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات وخارجه، واستردادها إلى أملاك الدولة، وصلت حتى نهاية 2014 إلى نحو 1371 صكا مزورا، وصل إجمالي مساحاتها الشاسعة إلى نحو 1.97 مليار متر مربع، قدرت قيمتها السوقية بنحو 1.8 تريليون ريال؛ “أي ما نسبته 60.2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي 2014”.
وفقا لتصريحات مسؤولي الوزارة، فإن العمل جار خلال المرحلة الراهنة على استكمال استرداد بقية الأراضي المنهوبة، والمقدرة مساحاتها بمساحات الأراضي نفسها التي تم استردادها حتى تاريخه، أي أن غلة تلك الأراضي يقدر أن يصل إجمالي مساحاتها في منظور العامين القادمين إلى نحو 4.0 مليار متر مربع أو أكثر بقليل. المؤمل في المرحلة الراهنة أن يتم توجيه أكبر قدر ممكن من تلك الأراضي المستردة إلى وزارة الإسكان، لتتولى بدورها تنفيذ مشروعات الإسكان الموكلة إليها وتلبية احتياجات البلاد والعباد في هذا الجانب، إضافة إلى زيادة قدرة الوزارة على منح جزء من الأراضي المستردة للأفراد المستحقين، الذين تراكمت طلباتهم بمئات الآلاف على بوابة طلبات وزارة الإسكان.
الإنجاز الثالث: صدور الموافقة على النظام الجديد لمصلحة الزكاة والدخل، القاضي في إحدى أهم مواده بفرض الزكاة على الأراضي والعقارات بهدف التجارة (المدرة للدخل)، ويتوقع بدء العمل بتنفيذه قبل نهاية العام الجاري، وهو القرار القاضي بإضافة الاستثمار العقاري إلى الأوعية المستحق عليها دفع الزكاة، وتحصيلها سنويا من قبل مصلحة الزكاة والدخل، وعدا أنه سيخدم كثيرا في تعزيز موارد الدولة تجاه مسؤولياتها المتنامية لمصلحة المستفيدين من وزارة الشؤون الاجتماعية من الفقراء ومحدودي الدخل، فإنه أيضا سيعزز من دقّة تقييم الثروات العقارية المستحق على ملاكها دفع زكاتها، الذي يقتضي بدوره حصر وتبويب الأصول العقارية المدرة للدخل والمخصصة للتجارة، ووضعها في قواعد بيانات تعزز من شفافية السوق العقارية.
الإنجاز الرابع: إقرار مؤسسة النقد العربي السعودي، نسبة الحد الأقصى للتمويل العقاري عند 70 في المائة من حجم التمويل، وبدؤها التطبيق الإلزامي الكامل لنظام مراقبة شركات التمويل، التي بدأ تطبيقها الفعلي في التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 الماضي، وهو ما كان له أبرز الأثر على تهدئة وتيرة تضخم مستويات الأسعار منذ تاريخ إقراره، وإسهامه في الحد كثيرا من تدفق السيولة الائتمانية على شراء أصول عقارية بالغة التضخم، ما جنب القطاع المالي التورط في الفقاعة العقارية، وجنب أيضا شرائح واسعة من المواطنين تحمل أعباء ديون طائلة بسبب شراء أراض ومساكن متضخمة الأسعار.
الإنجاز الخامس: صدور الموافقة الرسمية من مجلس الوزراء في 23 آذار (مارس) الماضي على قرار فرض الرسوم على الأراضي البيضاء، والتوجيه العاجل للأجهزة الحكومية المعنية بسرعة إصدار آليات تطبيقه، التي طرحت حولها مقترحا مهما في المقال الأخير “كم التكلفة المقترحة لرسوم الأراضي البيضاء”، بأن ترتبط تلك الرسوم بمعدل الفائدة على الريال السعودي، لتبلغ على أقل تقدير خمسة أضعاف معدل الفائدة، مبينا الأسباب والفوائد لتبني هذا المقترح، وكونه الأداة الأكثر فعالية التي نجح تطبيقها في عديد من التجارب، لعل أهمها تجربة مدينة هاريسبرج في ولاية بنسلفانيا الأمريكية.
الإنجاز السادس: قيام وزارة التجارة والصناعة باتخاذ خطوات أسرع تجاه تصفية المساهمات العقارية المتعثرة، حيث أنهت نحو 101 مساهمة عقارية متعثرة، وتعمل في الوقت الراهن على إغلاق وتصفية نحو 275 مساهمة عقارية متعثرة، وهذه خطوات بالغة الأهمية ستؤدي إلى تحرير مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للسكن، الذي بدوره سيسهم في زيادة المعروض على منصة السوق العقارية، خاصة أن أغلب تلك المساهمات العقارية المتعثرة، تتمركز في الوقت الراهن في مواقع متميزة مشمولة بالخدمات والبنى التحتية اللازمة، امتدت فترة حجبها إلى ما يقارب أربعة عقود من الزمن.
الإنجاز السابع: بدء الأجهزة العسكرية (الدفاع، الداخلية، الحرس الوطني) بالعمل على إنشاء مساكن لأفرادها في عديد من المدن والمحافظات، وهو التوجه الإيجابي الذي يؤمل أن يتم التوسع فيه بصورة أكبر، والذي سيخفف كثيرا من ضغوط الطلبات على وزارة الإسكان، وفي الوقت ذاته يمنح فرصا أكبر لشرائح اجتماعية مهمة جدا، ينبغي توفير الاستقرار الاجتماعي والأسري لها أكثر من غيرها من الشرائح الأخرى.
الإنجاز الثامن: قيام هيئة السوق المالية بقطع شوط طويل على مستوى تطوير سوق السندات والصكوك محليا، التي أصبحت مهيأة تماما لإصدار الصكوك الحكومية وكبريات الشركات المحلية، بما يمنحها القدرة على امتصاص فوائض السيولة المحلية الكبيرة، حتى تلك السيولة المتوقع خروجها من السوق العقارية، وهي أيضا البدائل الأكثر جاهزية محليا في ظل شح ا أداء السوق العقارية وصعوبة استغلالها، إضافة إلى ما تتمتع به من ارتفاع درجات الأمان وتدني مستويات المخاطرة. وحسبما كشفت عنه مشاورات المادة الرابعة لصندوق النقد الدولي التي اختتمت اجتماعاتها قبل أقل من شهر مضى، فإن توجه وزارة المالية لتمويل العجز المتوقع خلال العام المالي الجاري (يقدر بنحو 20 في المائة من إجمالي الناتج المحلي) سيكون عبر إصدارها لصكوك وسندات تنمية، وتجنب السحب من احتياطات الدولة، وهو الخيار الأمثل الذي سيحقق مرونة أفضل للمالية السعودية، ويخفف بدوره من الفقاعات التضخمية في أسعار الأصول عموما، والأصول العقارية على وجه التحديد.
اختتم بمشيئة الله تعالى في الجزء الأخير من هذه السلسلة الثلاثية أهم الحلول المتممة لكل ما مضى استعراضه من إنجازات. والله ولي التوفيق.