لابد من الاعتراف بداية بأنني لا أفهم كثيراً في اقتصادات العقار وبناء المساكن، لذا لم أجرؤ على الإقدام على بناء مسكن لي، على رغم أنني مررت بجميع الطفرات التي عاشتها البلاد، وأظن أنني كنت مؤهلاً للاستفادة من منح الأراضي وقروض صندوق التنمية العقاري في بداياتها المترفة، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل.
فإنتظرت حتى سن التقاعد، لكي أشتري منزلاً جاهزاً بضمان المؤسسة العامة للتقاعد، ولم يمنع هذا من استمرار اهتمامي بالمشكلة الإسكانية ومراقبة تطوراتها السلبية، التي تصاعدت في السنوات الأخيرة حتى وصلت إلى عنق الزجاجة، والاهتمام طبيعي، لأن القضية تمس بشكل مباشر أبنائي الذين دخلوا سوق العمل ويتأهبون لتكوين بيوتهم الخاصة بهم، وهي بالتأكيد ستشكل هاجساً يقلق الأجيال القادمة، ما لم توضع لها حلول مستدامة.
ولفهم جذور المشكلة وآفاق حلولها، كان لا بد من الاتصال بصديق ممن هم على قرب من قضية الإسكان وعلى اطلاع وثيق بها، وسألته: كيف وصلنا إلى هذا المضيق في مسألة السكن؟ ولماذا توقف صندوق التنمية العقاري عن الإقراض وتحول إلى شريك للبنوك التجارية؟
قال: الشراكة مع البنوك تعبير قريب من الواقع، والصندوق تحوّل من مقرض إلى ضامن للمقترضين وميسِّر لعملية حصول المواطن على سكن، ولو استمر الصندوق يعمل بالنموذج القديم نفسه لوصلنا إلى المضيق الفعلي، فالصندوق كان يعمل على أساس تدوير المبالغ المحصلة من المقترضين لتمويل قروض جديدة للمستحقين الجدد، والذي حدث أن المبلغ المتبقي في الصندوق لا يتجاوز 17 بليون ريال، تكفي لإقراض 34 ألف مستحق من أصل 88 ألفاً على القوائم وبعدها يتوقف الصندوق عن الإقراض، وهذا عائد لعدم التزام كثير من المقترضين بالسداد، فإذا أضفت لهذا مسألة شح الأراضي الحكومية التي يمكن منحها للمواطنين، فإن المشكلة ستكون أعمق الآن ومستقبلاً.
قلت: على ذكر الأراضي، فإن الناس يريدون أن يتملكوا الأرض، وأن يبنوا عليها مساكنهم كما يشاؤون، وهذا لا يتحقق في غياب منح الأراضي وتقديم القروض.
قال: هدف الدولة هو أن تضمن تملُّك المواطن السكن المناسب والمريح بما يضمن جودة الحياة، وصحيح أن النظام السابق يبدو في الظاهر أنه يحقق هذه الرغبة، إلا أنه ليس كذلك تماماً في واقع الأمر، فبحسب التجارب خلال العقود الماضية، فإن كثيراً من المواطنين بنوا بيوتهم في مناطق مخططة ولكنها غير مطوَّرة، لذا لم يكن غريباً أن ينتظر بعضهم سنوات لكي تصل خدمات الكهرباء والماء والهاتف إلى منازلهم، وكان المتهم الرئيس حينها هو غياب التخطيط، وهو أمر طبيعي حين كان الهدف هو تسريع عملية تحسين الحال المعيشية للمواطنين، بالاستفادة من التدفقات المالية الهائلة المتأتية من ارتفاع أسعار النفط، زد على ذلك أن كلفة البناء الفردي تصبح أكبر من بناء المشاريع، وتقل كلفة البناء ويمكن مراقبة المواصفات، بحيث تصبح المباني متعاظمة القيمة وذات عمر أطول. لذا، فإن نهج وزارة الإسكان بحسب الرؤية الجديدة هو تقديم مجموعة من الخيارات للمواطنين، منها: الوحدات الجاهزة التي تشرف الوزارة على بنائها، والبيع على الخريطة، والأراضي حين تكون متاحة، والقروض التي تقدمها البنوك بضمان صندوق التنمية العقاري.
قلت: هناك مشكلة رئيسة؛ فالبنوك لن تقدم هذه التسهيلات مجاناً، فلا بد أنها ستأخذ أرباحاً على التمويل، وهذا لم يكن يفعله الصندوق في أيامه، ألن يكون هذا عائقاً؟
قال: الصندوق يتحمل كامل كلفة أرباح التمويل لمن يقل دخلهم الشهري عن 14 ألف ريال، أي أنهم لن يسددوا سوى قيمة القرض الأصلية، ومن يتجاوز دخلهم ذلك فإن نسبة تحمُّل الصندوق تتراوح بين 35 في المئة و100 في المئة بحسب الدخل وعدد أفراد الأسرة، وهذا يمكن أن يستوضحه المتقدم من حاسبة الدعم على موقع الصندوق، والحقيقة أن نتائج أعمال الوزارة في هذا العام تثبت أن كل هذه الترتيبات لم تكن عائقاً أمام إقبال المواطنين على المنتجات التي أعلنت عنها في جميع المناطق بما فيها المدن الكبرى، إذ نجحت في تخصيص 282 ألف منتج سكني، متجاوزة الهدف المعلن لهذا العام. والأمر الأكثر أهمية هنا هو أن هذا الترتيب، بالشراكة مع مؤسسات التمويل والمطورين العقاريين، قابل للاستمرار لخدمة أعداد أكبر من المواطنين الآن ومستقبلاً. ولك أن تتخيل أن مبلغ 500 ألف ريال كانت تقدم لمستفيد واحد في ما سبق يمكن الآن أن تغطي تكاليف تمويل 25 مستفيداً.
قلت: لكن البنوك ومؤسسات التمويل لن تكون لديها سعة صدر الصندوق في مسألة السداد؟
قال: يجب أن ندرك أن القرض هو عقد ملزم يجب الوفاء به، وحتى الصندوق لا يزال يعتبر أن له 32 بليون ريال في ذمة 442 ألف مستفيد لم ينتظموا في السداد، والصندوق ستكون لديه وسائل لتحصيل هذه المبالغ وإعادة تدويرها في تمويل قروض جديدة. قلت: إذاً راحت علينا، أنا وعدد من المتقاعدين الذين حصلوا على قروض سابقة غير مدعومة.
قال: المشكلة مشكلتكم.. راجعوا الصندوق فربما لديه حل.