قد يحتاج المرء لخدمات الدكتور عبدالله الربيعة وفريقه للفصل ما بين مفردتي (سكن ) و (وطن) نتيجة تلازمهما، أو أن إحداهما تأتي توصيفا للأخرى، هكذا تستقر في الذاكرة، شفى الله المذيع المتألق ماجد الشبل الذي أوغل في تشكيل سيامية هاتين المفردتين في أذهاننا من خلال ترديده لرائعة خير الدين الزركلي:
العين بعد فراقها الوطنا.. لا ساكنا ألفتْ ولا سكنا
فالسكن جزء من تفاصيل الوطن لا يُمكن عزله عنه، أو أخذه منه، إلا بمقدار ما يُمكن أن تعزل مكونات الماء عن بعضها، ليصبح لكل مكوّن مادته الخاصة التي لا يجوز أن تأخذ اسم الماء، أو بمقدار ما يُمكن أن تأخذ من القمر ضياءه ليتحوّل إلى جرم سماوي، لا يستحق عندئذ أن يكون له اسمه الذي استحق به تلك المرتبة الفارهة من الجمال التي تغنى ولا يزال يتغنى بها الشعراء والعشاق. لكن يبدو أن وزارة الإسكان لها رأي آخر غير ما استقر في الوجدان لمعنى الوطن، فهي بمعاييرها وشروطها تريد أن تمارس دور الربيعة وفريقه لتفصل بين المعنيين السياميين حتى ولو أدّت هذه العملية الجراحية إلى تجريد كل واحد منهما من هويته الأصلية، وكأنها تفترض أنه مثلما يجوز أن يكون هنالك سكن مستأجر، يجوز أيضاً أن يكون هنالك وطن مستأجر!، ولن أخوض في تفاصيل تلك الشروط والمعايير الطويلة العريضة التي اعتمدتها الوزارة لتحديد أولوية مستحقي مشروعها، فهي أوسع من أن يُمكن قراءتها في مقال واحد، لكني فقط سأكتفي برد تلقاه أحد الشباب من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية عبر بوابة الوزارة الالكترونية يُفيد برفض طلبه.. لماذا؟
تردّ الوزارة التي أفترض أنا على الأقل أنها جاءت لتضع الأساس لمفردة (وطن) بتأمين السكن لأبنائه، وتقول بالحرف: “تشير سجلات المديرية العامة للجوازات إلى أن عدد أيام إقامة المتقدم خارج المملكة أكثر من 90 يوماً، وذلك بشكل مستمر أو متقطع لل 12 شهرًا السابقة، وإذا كانت الحالة غير ذلك يُمكن تحديث البيانات لدى المديرية العامة للجوازات ومن ثم إعادة تقديم الطلب عبر بوابة إسكان، وفي حال الإقامة بسبب العلاج أو العمل الحكومي أو الدراسة فيمكن تقديم ما يُثبت ذلك عبر أيقونة الاعتراض ورفع المستندات في بوابة إسكان”.
ماذا يعني هذا؟ هل هي عقدة سجل الحضور والانصراف؟، وهل المواطنة وظيفة تستلزم من كافة المواطنين أن يثبتوا التزامهم بها بالتوقيع في سجلات ضبط الدوام؟، وهل يُمكن أن ينصرف الإنسان عن وطنه حتى وإن غادره لسبب ما ولبعض الوقت في جسده؟، ثم هل تريد وزارة الإسكان أن تعيّن الجوازات كمراقب دوام في الوطن؟، أم أن جماعة الإسكان أشفقوا على المديرية التي نجحت في تقليص مراجعيها بتقديم خدماتها لهم الكترونياً عن طريق بوابة (أبشر) فأرادت أن تجد لهم عملاً جديداً بتكليفهم بمراقبة توقيع الحضور والانصراف لإثبات المواطنة، حتى لا يستبد بموظفيهم السأم والملل؟
ولنفترض أن هذا المواطن الذي أمضى 90 يوماً خارج الوطن بالجملة أو بالمفرق، كان في مهمات رسمية تقتضيها طبيعة عمله، أو أنه لا سمح الله كان في رحلة علاجية، أو حتى للسياحة، فهل ستطلبون منه قرار الانتداب، أو تقريراً طبياً، أو مشهداً من هيئة السياحة؟، لماذا كل هذه التعقيدات؟، ألا يكفي أن يكون مواطناً لا يملك سكناً؟ والأولوية لذوي الأسر.
نكتة ال 12 شهراً الأخيرة التي جاءت في رد الوزارة، تشبه طلب الطبيب أن تصوم 12 ساعة قبل التحليل، لذلك أنصحكم أن تصوموا عن تجاوز الحدود 12 شهراً قبل أن تفكروا في فتح بوابة إسكان وتحليل دم مواطنتكم، فقد اتضح أن السفر من نواقض المواطنة!!