خرج علينا وزير الإسكان مؤخراً بعد طول صمت، ليقول لنا ما مفاده أنه لا أمل في سكن للمواطن. وذكر الوزير عدداً من المعوقات والعقبات والمتطلبات شبه المستحيلة لكي يتحقق حلم المواطن بالسكن والذي أنشئت الوزارة من أجله قبل ٥ أعوام تقريباً. فإذا كان السكن لن يتحقق فلماذا لا يقوم معاليه بالتقدم إلى المقام السامي بطلب حل وزارة الإسكان وتسريح العاملين فيها وبذلك يساهم معاليه على الأقل في توفير وترشيد الإنفاق الحكومي ويحل الوزارة اذا لم يحل الإسكان، بدلاً من اللف و الدوران؟
اللف والدوران هو مصطلح شعبي يعبّر عن الإلتفاف حول الحل وعدم الإتجاه إليه بشكل مباشر والدوران في عمق المشكلة وبالتالي إطالة أمد الحل. كما أن اللف والدوران يعبّر عن حالة من المراوغة وعدم تسمية الأمور بمسمياتها لتخفيف وقع الصدمة على المتلقي، كما يفيد أيضا بعدم إحترام عقول وذكاء المتلقي. وهذا مع كل أسف ما دأب عليه بعض وزراءنا الأعزاء الذين يعنون بوزارت وجدت لخدمة المواطن. لا ينسى المجتمع السعودي ذلك الوزير الذي خرج علينا مطالباً الشعب السعودي بتغيير عادة أكل الرز، ووزير أخر إستنكف من عادة إستقدام العمالة المنزلية، ووزير ثالث خرج ليصدمنا بتصريح بأن الشعب السعودي يتمتع برفاهية لا مثيل لها في العالم، وهانحن اليوم أمام وزير للإسكان يطالب بتغيير ثقافة المجتمع السعودي لكي يحصل المواطن على سكن أسوة بكافة شعوب الأرض.
إختار وزير الإسكان منصة مخملية ليبدع لنا أفكاره وأراءه في إجتماع مع عدد من المثقفين في مركز نخبوي مغلق لمناقشة مشكلة يعانيها المواطن العادي، وقد لا تلامس تلك المشكلة أولويات نخبة المثقفين او مثقفي النخبة. أسهب الوزير في تعداد العوائق والمتطلبات وذكر أن لا إسكان إلا بعد أن تتحقق العوامل التالية: (١) تتغير ثقافة المجتمع السعودي؛ (٢) تغيير اتجاهات شرائح عدة في المجتمع فيما يتعلق بنوعية المسكن، وحجمه، والمتطلبات الضرورية فيه؛ (٣) توفر المعلومات الدقيقة؛ (٤) تسارع الإقتصاد السعودي الناتج عن تباطؤ الإقتصادالعالمي؛ (٥) إنشاء مجالس للملاك قبل الشروع في إنشاء الوحدات السكنية الصغيرة أو الشقق السكنية (٦) ضرورة العمل المتوازن لوزارة الإسكان مع مختلف الجهات الحكومية والمواطن والقطاع الخاص.
كان الظن لدينا بأن الوزير الجديد قدم إلى الوزارة شاباً وفارساً ومقداماً سيعمل على تسريع تنفيذ ما سبق أن تم منذ إنشاء وزارة الإسكان ويبتعد عن الجمل والمصطلحات والأعذار المنتقاة والمكرورة. كان الظن بأن الوزير الجديد سيتعاقد بأسرع وقت مع شركات لتنفيذ الـ (٥٠٠) ألف وحدة سكنية، ضمن ميزانية معتمدة ومبلغ مرصود قدره (٢٥٠) ألف مليون ريال، وفي حدود الـ (٢٠٠) مليون متر مربع التي تسلمتها وزارة الإسكان “منذ مبطي”. كان الظن بأن الوزير القادم من القطاع الخاص سيقف بقوة وحزم ضد مصالح “مافيا” العقار التي تشكل العقبة الكأداء (الكؤود) أمام مشاريع الإسكان الحكومية. لكن خاب ظننا بعد أن مارس وزير الإسكان من دون إتقان لعبة اللف والدوران.
نذكّر معالي وزير الإسكان أن ثقافتنا التي ينتقدها معاليه بدأت في التغيّر والتشكّل مع مشروع المؤسس الملك عبدالعزيز لتوطين البادية التي أنهكها الترحال. ومن أجل أن تتغير ثقافة المجتمع السعودي اليوم وتتغير إتجاهات وإختيارات شرائح من المجتمع فيجب عليه بداية أن يوطن أحفاد من وطنهم المؤسس لكي يشعروا بالإستقرار عند إمتلاكهم سكن بعيداً عن الترحال من إيجار في إيجار. وإذا لم ينجح وزير الإسكان في تنفيذ ما وعدت به القيادة قبل خمس سنوات بـ (٥٠٠) ألف وحدة سكنية، فلن ينجح في ما يعدنا به بعد خمس سنوات لتنفيذ (٢،٥) مليون وحدة سكنية، التي هي جزء من اللف والدوران.
نذكّر وزير الإسكان أنه سبق للدولة رعاها الله أن أنشئت مجمعات سكنية متعددة قبل أن تولد وزارة الإسكان. الحي الدبلوماسي في الرياض مفخرة المجمعات السكنية؛ مدينة الجبيل الصناعية ومثلها مدينة ينبع الصناعية؛ مدن عسكرية سكنية مكتملة الخدمات والمرافق في تبوك وخميس مشيط وحفر الباطن؛ مدن سكنية عالية الجودة في قواعد جوية مثل الظهران والطائف؛ مدن سكنية في مشاريع تعليمية وصحيّة. هذه أمثلة فقط لمشاريع عملاقة لم تقتصر على ساكنيها بل أحيت الهجر والقرى التي حولها إقتصادياً وإجتماعياً وحولتها ثقافياً بعد تنفيذها، وليس شرط لبناءها، كما تزعم ياوزير الإسكان فدعك من اللف والدوران.
لم تبخل الدولة في دعم كل ما من شأنه تيسير وتوطين الفرد السعودي، فأنشأت هيئة الإسكان ثم حولتها إلى وزارة، ودعمت الصندوق العقاري وهيئة الإسكان في العقد الماضي فقط بـ (٨٩) ألف مليون ريال: (١) زيادة رأس مال الصندوق بمبلغ (٩) مليارات في العام ١٤٢٦هـ؛ (٢) تعزيز موارد الصندوق بمبلغ (٢٥) مليار ريال في العام ١٤٢٩هـ؛ (٣) ثم دعم رأس مال الصندوق أيضاً بمبلغ (٤٠) ألف مليون ريال؛ (٤) دعم ميزانية هيئة الإسكان حينئذ بمبلغ (١٥) ألف مليون ريال في العام ١٤٣٢هـ؛ أما الجوهرة في تاج الدعم لوزارة الإسكان فهو إعتماد مبلغ الـ (٢٥٠) ألف مليون ريال. وبعد ذلك كله يخرج علينا الوزير بطرح مستحيلات وتبريرات إستهجنها المواطن وإعتبرها ضمن ملف اللف والدوران.
التفسير المنطقي الوحيد لما ذكره وزير الإسكان هو بإختصار: “أفيقوا أيها الشعب السعودي من حلم السكن”. العوامل الـ (٦) التي ذكرها الوزير لا توحي فقط، بل تؤكد أن لا حل لأزمة الإسكان، فكل عامل من العوامل الآنفة الذكر كفيل بإجهاض فكرة حصول المواطن على سكن من إنتاج الحكومة. ونحن نقول لا بأس أن نستيقظ من حلمنا، وأن يخيب الوزير والوزارة ظننا، لكن مقابل ذلك التسويف والتعطيل والإستيقاظ وخيبة الظن، لماذا تبقى وزارة أو يبقى وزير للإسكان بدلاً من رفع سقف التوقعات واللف والدوران؟
قد يقول قائل، أو يتسائل سائل، ماذا نفعل بالمبالغ المرصودة؟ نجيب وبالله التوفيق، أنه بعد حل وزارة الإسكان في القريب العاجل بإذن الله، سيظهر لنا حل للإسكان وهو: توزيع مبلغ الـ (٢٥٠) ألف مليون ريال على الـ (١٣) منطقة إدارية بواقع (١٩،٢٣٠،٧٦٩) تسعة عشر ألف مليون ريال تقريباً لكل منطقة لبناء (٣٨،٤٦١) ثمانية وثلاثون ألف وحدة سكنية في كل منطقة بإشراف أمير المنطقة. فكل منطقة إدارية لديها من المسئولين الأكفاء مايمكنهم من توطين مواطني المنطقة بدلاً من التركيز على وزارات مركزية أهملت الإطراف أيّما إهمال.
أخيراً، يامعالي وزير الإسكان: “شيء لابد منه إستقرب منه” كما يقول المثل الشعبي، فلا ضير في أن تساهم في حل الوزارة إذا كان حل الإسكان مستعصياً، فقد تم حلها من قبل بالمناسبة. ولا ضير من أن تلتزم بالقسم الذي أديته وهو أن تؤدي عملك “بالأمانة والصدق والإخلاص” الذي يفترض أن تسمي الأمور بأسمائها. توقعات المواطن السعودي عالية جداً فلا تؤكد ماقاله كاتبنا الكبير خلف الحربي في مقاله “وزارة الإسكان تضحك عليكم”. ختاماً، خذ هذه الحكمة الطرادية: “ما لف وزير ودار، إلا كما إستوزر طار”. حفظ الله الوطن.